غالب الذيابي
مئة وسبع وتسعون سنة مضت على رحيله. مضت القرون وما زالت مفردات قصيدته باقية وكأنه شاهد على عصره. لغة عصرنا هذا. كيف لشاب أمي أن يستنبط الإلهام من بيئة لم تتكرَّم بسد رمقه عندما كان يتضور جوعاً وهو ابن السبع السنوات يوم صدح بأولى علامات شاعريته مخاطباً أمه وهو يبحث عن مفتاح الغرفة التي يخزن فيها التمر.
من عين المفتاح
من فوق وركي طاح
بطني كما الردّاح
يبغى غداً له
تعتبر هذه الأنشودة بمثابة النواة الأولى لشاعرية متفجرة استدرجها الجوع إلى شفاه ذلك الطفل ليتمتم بها قبل أن يسترقها سمع الأم. كيف جعل قصيدته مزيجاً من الإلهام والابتكار؟
هل تعلم منهج التعبير: لا
هل درس اللغة العربية: لا
هل درس علم الجناس: لا
هل دخل مدرسة طيلة حياته: لا
يا لعصرٍ ارتحل برحيله ويا لأبيات بكت عليه بعدما أوجدها في لحظة هُيام.
إنه خارق التعبير، شفاف الإحساس لقصيدته سر عجيب في ملامسة شغاف القلوب.
استمع له وهو يحاكي المنازل وكأنه يسير على خطى مجنون ليلى أو عنترة بن شداد حينما يكلمون الأطلال بعدما تضيع الحيلة وحارت الأقدام.
حي المنازل منازل ذيك
اللي تقول آه يا ذاكي
همي وغمي وسقمي فيك
ينبيك عما حكى الحاكي
يامي انا حالفٍ لـ أرميك
وألا لصيدك بشباكي
ما ليلةٍ بت يا بناخيك
الا وانا شاكيٍ باكي
إن مَلَكة شعر ابن لعبون لا يليق بها إلا استراق حدقة العين قبل استراق السمع, ومن دون لا تشعر كمتذوق للشعر تجد نفسك تزداد شغفاً بالتفتيش عن تركته الأدبية الراقية اقرأوا معي قصيدته التالية:
حمام ياللي على نبنوب
في شيلة الفن بيطاره
بالله عليك انحر المحبوب
واسجع بصوتك على داره
وان قال وش لك من المطلوب
قولي من الولف زوارة
وإلى تبسم حسين الذوب
حصٍ فلق عنه محارة
أي أحساسٍ يمكن أن يرقى لهذا الإحساس. أي سحر يتملك المشاعر بعد هذا السحر المباح؟ ان كان للفصحى وصيفة من النبط فوصيفتها ما تفتق عنه إلهام هذا الجهبذ الذي سكنته الدهشة والجرأة معاً. اقرأ معي هذه الرائعة:
نح يا حمام الهوى بسجوع
يا من يسومه وانا بيعه
ما فيك كود العنا وفجوع
وقرور قلبي و تصديعه
يا على ذا لي شهر واسبوع
الطم كما تلطم الشيعة
راعى الهوى زايده مقطوع
قلبه معلق بشريعه
دُونكْ ثْوَيبي مِزوع مْزُوع
فتق ظفوري بترقيعه
راعي الهوى دايمٍ مسبوع
بالليل تكثر سعاسِيعه
وجدي على الجادل المربوع
اللي خذ القلب تفريعه
احمى على شوفته و اموع
والنفس فيها طميميعه
وخْديدْ مَي يشع اشعوع
مثل القمر في ترابيعه
تغريك في قولها كعكوع
حمر الخواتم بأصابيعه
قلب الخطا يا على مطبوع
بالصدر تخفق تراميعه
يا له من غواص بارع استطاع اصطياد مكامن الدرر من أحشاء البحر وهو ابن النخلة والسنابل وشجيرات الغضى! وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: واعلموا أن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف. انظر كيف استخرج الشاعر فكرته من هذا الحديث أحد الأبيات التالية مع فارق التشبيه:
حي المنازل وهن تلوف
انحب عليها واهلهنه
منازلٍ يا علي ما شوف
الا الهوالات فيهنه
سود الليالي عطن حلوف
عهدٍ وثيقٍ وخاننه
ما توصل الخط يا مشنوف
حسب الرجا فيك والظنة
دار بها لي ربن خشوف
وردية الخد منهنه
مازال قلبي بها مشغوف
يطرد هوى نازحٍ عنه
لجة خلاخيلها وشنوف
كلت فوادي من الحنة
ومجدلات خلاف ردوف
مثل الغرابيب يكسنه
وحدر الحواجب لميع سيوف
والسيف بظلاله الجنة
صقل موهبته في الزبير (الإمارة النجدية السابقة) وصلها هارباً من بلدته (حرمة) وذلك سنة 1222 للهجرة. وفي الزبير وجد المثل القائل (الماء والخضرة والوجه الحسن) فتقلدت النجوم لآلئ من أفكاره فانطبع سناها على بحر البصرة ونهرها فكان مشهداً شاعرياً آسراً. لم يعمر محمد بن لعبون طويلاً فقد توفي في الكويت على أعتاب النضج ابناً لاثنتين وأربعين سنة وذلك سنة 1247 للهجرة بسبب مرض الطاعون الذي اجتاح دول مجلس التعاون الخليجي. فسقطت راية لطالما رفرفت من على ناصية الشعر، رحل وترك القوافي لهجير النوى لتكون شاهداً على رحيله. فهكذا كان.. وهكذا كان عصره.