تجارب الحياة ومواقفها لا تنتهي.. منها نتعلم وأحياناً نتألم.. ونستفيد من دروسها ونعرف أكثر من أجل حياة أفضل وتحديداً في مسارات القيم والمبادئ والأخلاق والفضيلة.. فإذا كانت الحياة مدرسة.. فالتجربة جامعة بأكملها.. فمن واقع تجربة حية عشتها بكل تفاصيلها وتحدياتها في حياة معلمي الأول والدي الراحل الشيخ محمد بن عبدالرحمن الدوس -رحمه الله- في جوانب تربوية وقيمية كثيرة ومنها قيم (إنزال الناس منازلهم) الذي تربى على منهجها الأخلاقي الأصيل.. منطلقاً من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم). وهو حديث عظيم على ضوئه يتعامل الأفراد مع بعض فالكبير له معاملة والصغير له معاملة، والعالم له معاملة، والجاهل له معاملة تليق به, والرجل له معاملة, والمرأة لها معاملة، ومن الظلم للإنسان أن يعامل الكبير معاملة صبي صغير، ومن الظلم أيضاً معاملة الصغير بمنزلة شيخ كبير، أو جاهل تنزله منزلة عالم.
ومعنى إنزال الناس منازلهم أن يعطى كل واحد قدره بما يلائم حاله من سن، أو دين أو علم أو شرف، وقد عدّ العلماء هذا الحديث من الأمثال والحكم مما أدب به المصطفى صلى الله عليه وسلم أمته من إيفاء الناس حقوقهم من تعظيم العلماء والأولياء وإكرام ذي الشيبة وإجلال الكبير وما أشبهه.
وفي ذات الوقت أمرنا بعدم احتقار من هو أقل مكانة، أو قدراً، فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا).
وما أعظم وأرقى فعل سيد البشرية وصفوة الخلق محمد صلى الله عليه وسلم عندما أسلم (أبو قحافة) والد الخليفة الراشد أبوبكر الصديق- رضي الله عنهما- يوم فتح مكة وكان رجلاً كبيراً في السن أتى أبوبكر -رضي الله عنه- بأبيه يقوده فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (هلاّ تركت الشيخ في بيته حتى آتيه، فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله أحق أن تمشي إليه. فأجلسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح على صدره، وقال: أسلم تسلم، فأسلم، وهنأ رسول الله عليه الصلاة والسلام أبا بكر رضي الله عنه بإسلام أبيه). رواه أحمد وغيره. لأن هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر صحابته الكرام بذلك فكانوا الأسوة الحسنة في إنزال كل واحد منزلته التي يستحقها.
وعندما نغوص في أعماق شخصية والدي الراحل- رحمه الله- التربوية والاجتماعية والقيمية والدينية نجد أنه كان يحرص على (إنزال الناس منازلهم) حتى من كان يدخل عليه في مجلسه زائراً يقوم له ويقدره رغم كبر سّنه ووهن عظمه وشيخوخته وقد تجاوز التسعين عاماً.. وفي الأفراح عندما يحضر ملبياً الدعوة الفرائحية وكنت ملازماً له في كثير من المناسبات الزواجية كان إذا دخل عليه أحد الأقارب أو المدعوين يقوم من كرسيه ويسلم عليه، وقد تكرر هذا المشهد، وكنت أشفق عليه -رحمه الله- لصعوبة قيامه من كرسيه ليصافح الزوار والأقارب، وأتذكر كنت أقول له: «(الله يطول عمرك.. سلم وأنت جالس.. الصالة مكتظة بالحضور، وأنت معذور).. فيكون ردُّه (لازم نقدر الناس وننزلهم منازلهم) ما أروعها من شيم تربوية فضيلة، وقيم أخلاقية اجتماعية أصيلة، وقد عمّق هذه العبارة النبوية (أنزلوا الناس منازلهم) بأسلوبه الأبوي والتربوي الذي يدل على رقي الخلق وجزالة المعنى.
رحم الله معلمي الأول (والدي) الذي كان يقدر الجميع في احترام مشاعرهم، وإنزالهم منازلهم.. وفي تواضعه الجم وخلقه الرفيع وبشاشته العفوية.. فرحل عن هذه الدنيا الفانية عن عمر (104 سنوات) وما زالت سيرته العطرة حاضرة في النفوس والوجدان.. والله المستعان.
ومضة: الذكر الجميل.. عمر طويل.
** **
- خالد الدوس