د. محمد بن صقر
في مقال بعنوان «كيف نجعل أفكارنا واضحة» نشر تشارلز بيرس وهو فيلسوف وعالم منطق وعالم رياضيات أمريكي، يطلق عليه في بعض الأحيان لقب «أب البراغماتية أو العَمَلانِيّة»، حيث كان بيرس يحاول أن يشرح مبدأ البرغماتية من خلال ذكره أن عقائدنا هي في الواقع قواعد للعمل والأداء، وأننا لكي ننشيء معنى الفكرة، فكل ما نحتاج إليه فقط هو تحديد أي سلوك يصلح لإنتاجه، لذلك لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا عن موضوع ما فإنا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، فلا يوجد أي شيء جديد على الإطلاق في الطريقة البرغماتية، فقد كان الفلاسفة السابقون بارعين في استخدامها، فبحسب تعريف الشاب الإيطالي بابيني الذي قال إن البرغماتية مثل الرواق أو الدهليز في فندق، فهو يفضي إلى عدد لا حصر له من الغرف ويفتح عليها فتجد في كل غرفة شخصًا يمارس هوايته أو طقوسه، لكن في نهاية الأمر الرواق ملكهم جميعًا. هذه المقدمة البسيطة قد تكون مدخلاً لفهم البرغماتية وما يتعين على العرب العمل على هذا المفهوم في سياساتهم واقتصاداتهم. فالعرب وإن فقهوا معنى البرغماتية إلا أنهم ما يزالون يتبعون في الغالب سياسة لا تتناسب مصالحهم ومصالح شعوبهم، فالبرغماتية أصبحت تُمارس كأسلوب واقعي فرض نفسه بمفهوم غربي متلون، وطريقة ولدت بأفق صغير، واستخدمت في مجال محدد، إلا أنها من خلال التطور التاريخي الذي مرت به، توسعت وشملت مجالات أخرى، ابتداءً من الشخص البراغماتي إلى السياسة البراغماتية أو الاقتصاد البراغماتي، لتتجاوز بذلك كل المدارس السياسية التي تحكم الدول في إطار تعاملها الخارجي بشكل خاص.
ولقد وضع «بيرس» المرحلة الأولى لمصطلح البراغماتية، وبيّن فيها أننا لن نتمكن من التحقق من صحة المعلومات التي تأتينا عن طريق الحواس؛ لأنها كثيراً ما تكون خادعة، إذ تخلط الحقائق بالأوهام والخيالات والآمال، وستكون النتيجة أننا لن نكون على الطريق الصحيح، وبذلك سنسأل أنفسنا إذا ما طرحت علينا المعلومات والمعارف عن طريق الإعلام أو أي مصدر آخر، وبشكل مُعلّب ظاهره الدليل على الوعي وباطنه التجهيل والتضليل، وفق خطوط مرسومة لنتيجة محددة مسبقة، وبهذا الشكل، ماذا علينا أن نصدق؟، لأن ما نحس به قد ضُلل بالشكل الذي يوحى إلينا أن كل شيء حقيقة، لكنه في واقع الأمر كذب وخداع، وهنا يأتي دور البراغماتية في حل هذا الإشكال، إشكال حقيقة المعارف والمعلومات والأفكار والأخبار الكاذبة، ونبحث من خلال التجربة والتحليل عن صواب وصدق المعارف والمعلومات، فالبراغماتية حسب طرح «بيرس» هي طريقة شأنها شأن المدارس السياسية التي تتبناها الدول الأخرى (كالماركسية والواقعية والرأسمالية)، وفلسفتها أنها تركز على النتائج الإيجابية والمنفعة والثمار المتحصلة التي تؤثر على سلوكنا بشكل إيجابي من الأفكار والقيم والمعايير الأخرى، فلكل شيء وجود حقيقي، فالفكرة التي يشعر بها الفرد تعد مشروعاً، والنشاط هو إنتاج عقل إنساني، فتوضيح الفكرة يكون بالقياس إلى آثارها العملية في حياة الإنسان.
فمن هنا لابد أن العرب يبحثون عن مصالحهم وطرق طرح أفكارهم وبأخلاقهم العربية الأصيلة التي يتفاخرون بها، فلا يمكن أن نطبق مفهوم البرغماتية بمفهومها المتلون حسب مصالح وأطروحات الغرب، فالغرب يعرفون متى يؤيدون أدواتها وطريقتها ومتى يكونون لها أعداء ويسمونها بأسماء جديدة، ثم إن البراغماتية تتقاطع مع ما قاله العالم الألماني «ماكس فيبر» إن القائد الذي يرى أن «الشيء الصحيح هو الشيء الذي ينبغي فعله» طالما يتفق مع منظومة القيم الإنسانية، وإن كان تحقيقه قد لا يحقق المصالح السياسية للقائد نفسه، وهذا هو ما واجهته ميركل عندما غردت ضد التيار في تبنيها مواقف مغايرة للرأي العام الألماني في قضايا الأزمة المالية والمهاجرين، وقد انعكس ذلك في النتائج المخيبة للآمال في الانتخابات عام 2017 الذي أكد أن المعرفة هي خطة ووسيلة، وبالتالي أصبح العقل أداة نفعية، ونستنتج من الطرح السابق، أن البراغماتية بُنيت على أسس معينة ذات مغزى واضح، ولكنها أخرجت من سياقها الذي بنيت فيه، وعملها الذي أنشأت من أجله، وبحكم منطق العلاقات الدولية فإنها تفضل عدم الالتفات إلى المعايير الأخلاقية والمثالية والمبادئ المثالية في إطار التعامل الدولي، وأصبحت تنظر إلى المصلحة بغض النظر عن المبادئ، ويمكن أن نجد ذلك جلياً في أهم أدوات العلاقات الدولية وهو الإعلام، ولكن العرب قد يعيدون مفهوم البرغماتية باحترام الأخلاق في الممارسات الدولية وتغليب المصالح بناء على المبادئ الأصيلة ونقل أفكارهم بأساليب قائمة على التجارب والبراهين.