حمّاد بن حامد السالمي
« قبل أيام عدة فارطة؛ كنا نلتقي في الطائف المأنوس مع أكثر من 130 مؤرخًا وباحثًا من المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون الخليجي. هذا اللقاء التاريخي الفريد؛ الذي نظمته جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي تحت عنوان: (الطائف.. تاريخ وحضارة)؛ رعته مشكورة جامعة الطائف، وأداره باقتدار مركز تاريخ الطائف، وقدم 26 بحثًا ودراسة تاريخية وحضارية وإنسانية عن الطائف، في ندوته التي دامت ثلاثة أيام. كما كان هناك برنامج مصاحب لزيارة الأمكنة التاريخية، وتقديم العروض الشعبية من فنون الطائف والمملكة في حديقة الملك فهد، وفي مقر شركة الطائف للسياحة والاستثمار بالكر. هذه الندوة التاريخية الحضارية؛ بما قُدِّم فيها من بحوث وعروض، فتحت الباب على أسئلة استفهامية- أو استنكارية- من كثيرين غيورين على التراث والمورث الشعبي، سواء للطائف أو لغيرها من مدن ومناطق المملكة ألا وهو: لماذا لم تتطرق ندوة: (الطائف.. تاريخ وحضارة)؛ للموروث الشعبي للطائف، من فنون شعبية، ومآكل وملابس وأدوات وعادات وغيرها؟.. أليست هذه من تاريخ الطائف..؟ ومن ثقافته..؟ باح بهذا السؤال وبغيره؛ زملاؤنا في جمعية الثقافة والفنون بالطائف، وعلى رأسهم رئيس الجمعية الأستاذ (فيصل الخديدي)، وآخرون. قلت رأيي في ردود على البعض منهم في وقتها. قلت: إن هذا سؤال في محله، ولعل جمعية المؤرخين والآثاريين في دول مجلس التعاون الخليجي؛ تعطي هذا الأمر ما يستحقه من عناية ومن دراسة وبحث، بحيث نشهد دراسات وبحوثًا في الندوات القادمة؛ تتناول الجوانب التراثية والموروثات بصفة عامة، تاريخًا وتحليلًا، لتعميق الصلة بين تاريخ الأمكنة الذي أخذ حقه من البحث؛ وبين تاريخ الإنسان وثقافته وفنه وعاداته ومظاهر حياته عبر العصور في هذه الأمكنة.
« وفي الوقت ذاته؛ كنا نتابع بكل إعجاب وشوق؛ العروض التراثية والفنية التي كانت تقدمها (الفرقة الوطنية السعودية للموسيقى) في العاصمة الفرنسية باريس. يُذكر أن هذه واحدة من مبادرات الفرقة الوطنية للموسيقى ضمن حزمة من المبادرات الثقافية المعلن عنها على منصة وزارة الثقافة، والتي تهدف إلى تشكيل فرقة موسيقية وطنية احترافية، تتمتع بمهارات عالية، لتمثيل المملكة في المحافل الموسيقية محليًّا وعالميًّا، وللعزف خلف أشهر الفنانين السعوديين والعرب في المحافل رفيعة المستوى. إن الفرقة الوطنية للموسيقى التي نحن بصدد الكلام عليها هنا؛ جاءت واحدة من مبادرات رئيسية مهمة لتحقيق الإستراتيجية الثقافية للمملكة، بهدف تعزيز الوعي الثقافي كنمط حياة، وتماشيًا مع رؤية المملكة 2030.
« شاهدت وتابعت مقاطع عدة مدهشة حقيقة لهذا النشاط النوعي الجديد، ذلك أن فرقة (الكورال) السعودية التي تعزف وتغني وتنشد الألحان في باريس؛ لا تقدم ألحانًا وغناءً فقط؛ وإنما هي تقدم بلادها من خلال الرقص والفن الموسيقي، ومن خلال موروث المملكة في اللبس، وفي أدوات الطرب، من عود وطبلة وطار ومزمار وخلاف ذلك. كما أنها أظهرت للعالم أجمع؛ الثوب والعقال السعودي على الرأس، ومرافقة المرأة للرجل في الغناء والترديد، وبروز غنائيات شعبية من السامري والحدري والمجرور والعرضة وغيرها. أليست هذه هي أيسر وأنجع الطرق لتعريف العالم ببلادنا..؟ وبتاريخها وتراثها وثقافتها العريقة..؟ خاصة ونحن نفتح النوافذ والأبواب للسياح من كل أقطار العالم، لكي نخلق لأجيالنا القادمة؛ رافدًا ثانيًا بديلًا للنفط ألا وهو: (السياحة.. السياحة نفطنا القادم)..؟ بلى ورب الكعبة. إنها كذلك، بل أكثر من ذلك.. إن الموروث الشعبي؛ هو رسول محبة وسلام بين شعوب الأرض كافة.
« لا أحد ينكر أن الموروث الشعبي؛ من آداب شعبية ومرويات شفهية وفلكلورات متنوعة؛ يحتل الجزء الأهم من تاريخ وثقافة الشعوب، فهو الوعاء الذي تستمد منه تقاليدها وقيمها الأصيلة، ولغتها وأفكارها وممارساتها، وأسلوب حياتها الذي يعبر عن ثقافتها وهُوِّيتها الوطنية، فالعناية بهذا التاريخ، وإظهاره وإبرازه في المجتمع؛ يزيد من متانة جسر التواصل بين الأجيال، فهو من أقوى الركائز الأساسية في عملية التنمية والتطوير والبناء، والمكوّن الأساس في صياغة الشخصية الفردية والمجتعية، وبلورة الهُوِّية الوطنية.
« جميل جدًا أن يذهب الموروث الوطني السعودي إلى كبريات العواصم العالمية كرسول سلام ومحبة، وجميل كذلك؛ أن يكون هو عماد مناشطنا الترفيهية الكبرى التي يشهدها السياح القادمون إلى بلادنا. إن أكثر ما يشد السياح الحقيقيين في البلدان التي يسيحون فيها؛ هو ثقافة البلد، وتراثه المعماري والآثاري، وكذلك موروثه الشعبي، من موسيقى وغناء ورقص ولبس ومأكل وعادات متوارثة. لنجعل من هذا المكنز العظيم؛ صورة حية نحتفي بها في دراساتنا وأبحاثنا، وفي برامجنا الثقافية والترفيهية، وركيزة للسياحة في السعودية، السياحة التي هي: (نفطنا القادم).
« تعالوا إذن؛ نختم كلامنا بنص شعري من الموروث الشعبي لشاعر مجهول يُغنىَّ ويردد في الطائف على لحن (الحدري)، وأشهر مغنيه على الإطلاق؛ هو أبو الفن السعودي: (طارق عبدالحكيم) رحمه الله. يقول النص.. وفيه مفردات مكانية، وإيحات غزلية، وصور جمالية غاية في الإبداع:
يا ليت ما بيننا ريعان
والا كرا يتعب الماشي
لأسري لهم في هويد الليل
وارجع مع نجم الأغباشي
بنيت قصرًا من القصناع
بالهيل شيدت سيسانه
بنيته لاهل الهوى مقيال
واكايد البيه في بستانه