ولدت الروائية الألمانية جيني إيربنبيك ونشأت في ألمانيا الشرقية قبل توحيد الألمانيتين. تم ترجمة العديد من أعمالها إلى عشرين لغة. يمكن اعتبار رواية «أنا أغادر أنت تغادر هم يغادرون» (صدرت عن دار نشر فايار الفرنسية) نصاً أدبياً في أسلوبها ونصاً فلسفياً من خلال الأسئلة التي تطرحها ونصاً تاريخياً وقانونياً من حيث الأفكار التي تعرضها. ولأن انتقال البشر من قارة إلى قارة أخرى لم يتوقف منذ آلاف السنين، فإن اهتمام الروائية جيني إيربنبيك، التي تعتبر أول كاتبة ألمانية تكرّس عملاً أدبياً عن المهاجرين، قد انصب على هذه البيئات غير المستقرة الطاردة لأبنائها وعن الأسباب التي تدعو هؤلاء البشر لمغادرة أوطانهم والمغامرة بأرواحهم وبالتالي سقوطهم حتماً في أيدي مافيا التهريب، كما انصب اهتمام هذه الروائية بالبيئات الأوروبية المستقبلة للمهاجرين الجدد وبظروف معيشتهم وبإمكانيه اندماجهم في المجتمعات الجديدة. ستشغل هذه الأحداث حيزاً كبيراً في هذه الرواية.
في هذه الرواية التي نالت نجاحاً كبيراً عند إصدارها في أغسطس 2022، تحكي جيني إيربنبيك عن السبب الذي يجعل الأستاذ الجامعي الألماني ريشار يقترب من مجموعة من الغرباء الأفارقة الذين تركوا بلادهم من أجل الاستقرار في ألمانيا. يبدو ريشار في بداية الرواية شخصية عادية، متقاعد عن العمل أرمل وبدون أولاد كما أنه انفصل عن زوجته الثانية حديثاً. ريشار وأصدقاؤه من المثقفين رجالاً ونساءً لديهم فضول لمعرفة كل شيء. ولأنه من سكان برلين الشرقية حيث درس وعمل قبل سقوط جدار برلين في عام 1989، ولأنه وُلد تحت قصف المدافع إبان الحرب العالمية الثانية، فقد كان يتمتع بقدرات تجعله مؤهلاً لمشاركة اللاجئين تجربة الحرب في بلده ألمانيا وتجربة تغيير نمط الحياة. يبقى أن نعرف ما إذا كان كل هذا الإرث الثقافي سيساعده على فهم طبيعة المهاجرين بشكل جيد. لا ينتمي ريشار إلى أي حزب سياسي ولا يهتم إلا بمصالحه الشخصية: إنه يجسد إلى حد كبير رؤية الرجل الغربي للآخر التي ستتشكل من خلال لقائه بالمهاجرين. سيمرّ أمامهم دون أن يراهم لأن مظهرهم لا يلفت الانتباه وأيضاً لأنهم يتهربون من نظراته التي قد يصوبها تجاههم. سينتبه إليهم للمرة الأولى من خلال نشرات الأخبار عبر شاشة التلفزيون في بيته. سيعاني ريشار من صراع داخلي لأنه تعلم في طفولته معنى البؤس، لكنه ليس مضطراً لأن يستسلم إلى هذا الاضطراب النفسي لسبب بسيط وهو أن البائس واليائس هو الذي يُضرب عن الطعام.
يسير ريشار في أحد الأيام في ساحة أورانينبلاتز ببرلين، وقعت هناك حادثة لكنه لم يلتفت إليها، سيعلم عنها في المساء من خلال نشرة الأخبار التي تتحدث عن 450 أجنبياً يطالبون باللجوء السياسي ويقيمون في خيام في هذه الساحة ويمكثون هناك لمدة عام ونصف.
يستخدم ريشار مهاراته في التعامل مع الآخرين وفي التواصل مع الأشخاص البائسين الذين تقطعت بهم السبل في شوارع برلين. يقترب من اللاجئين وهنا سيدرك القارئ أن ثقافة ريشار قد خيبت آماله لأنها تضع حاجزاً نفسياً بينه وبين واقع المهاجرين المعيشي. فتراثه المعرفي يجعله يقارن بشكل تلقائي بين هؤلاء الغرباء وبين بعض أبطال الأساطير أو الحكماء السابقين: أحد هؤلاء اسمه تريستان فقد والدته، هناك شخص آخر اسمه أبولو وثالث بطل الألعاب الأولمبية، إلخ. ربما يجد ريشار صعوبة في نطق أسمائهم التي قلما يتذكرها. ربما يكون أيضاً ضحية التحيزات التي يتم تأجيجها باستمرار في أوروبا صاحبة الماضي الاستعماري والتي لا تعترف إلا بثقافتها فقط.
تحثنا مؤلفة رواية «أنا أغادر أنت تغادر هم يغادرون» إلى دراسة الأسباب التي دعت هؤلاء البشر إلى الهجرة إلى بلاد بعيدة ضمن سياقها التاريخي والثقافي بشكل يتجاوز الأساطير القديمة التي درسها ريشار والتي تشهد على أن البشر الذين لا يستقرون في مسقط رؤوسهم يشرعون دائماً في البحث عن أراضٍ جديدة. إن تاريخ البشرية يستقي مادته من حركة الناس وتنقلاتهم، لكن ما لم يدركه ريشار في البداية هو أن ملحمة هؤلاء الأفارقة الذين ينتشرون على أرض ألمانيا ليست ملحمة بطولية بأي حال من الأحوال فهم لن يحاربوا طروادة ولن يواجهوا التنانين، إن فرارهم من بلادهم لا يعني سوى تجنب ويلات الحروب والبؤس والموت.
وبشكل تدريجي تتفتح عيون ريشار على هؤلاء الغرباء وسيشاركهم حياتهم وسيصادق بعضهم وسيدافع عنهم ويحميهم. سيشارك في الاحتفالات التي ينظمها المهاجرون وسيكتشف الأكلات الجديدة وسيتعلم أن يأكل مثلهم بدون شوكة وسكين. في المقابل سيدعوهم إلى منزله ويقدمهم لأصدقائه المثقفين، وعندما يجد الأفارقة أنفسهم بلا مأوى سيبحث لهم عن مكان للإقامة وسيأويهم في منزله بشكل رسمي.
تأتي رواية «أنا أغادر أنت تغادر هم يغادرون» في صورة نقد سياسي للمجتمعات الغربية التي تقف ضد المهاجرين والهجرة غير الشرعية التي فرضت نفسها عليهم وما زالت تسبب الاضطرابات التي نعرفها اليوم. تستعرض الرواية العواقب الضارة لقانون يربط المهاجرين بأول دولة أوروبية تطؤها أقدامهم، كما أنها تنتقد الحظر المفروض عليهم ومنعهم من العمل في حين أن دولة مثل ألمانيا في حاجة ماسة إلى قوة عاملة، إلا أن اللوائح الأوروبية تجبر المهاجرين على السفر باستمرار من مكان إلى آخر.
** **
أيمن منير - أكاديمي ومترجم مصري