حامد أحمد الشريف
«السُّلَّم والثُّعبان» قصّة قصيرة تمّ نشرُها ضمن كتاب «ملاذ وشجون أخرى» الذي قام بتحريره القاصّ السعوديّ الأستاذ محمد بن ربيع الغامدي، وتولّى نشره. يحوي هذا الكتاب مجموعة من القصص لعددٍ من الكُتّاب والكاتبات، ويُعَدّ امتدادًا لتجربة الباحث والبِبليوغرافي السعودي الأستاذ خالد اليوسف الذي بادر بنشر تجربته الأولى في هذا المجال بإصداره كتاب «مئة قصّة قصيرة من السعوديّة».
كتبت قصّةَ «السُّلَّم والثُّعبان»، الإبداعيّة الواقعيّة، القاصّةُ صوفيا الهدار، بأسلوب أدبيّ جميل، وبإجادة سرديّة ملفتة، وبشيء من الرمزيّة الإيجابيّة الموظَّفة بطريقة متقَنة في سياق السرد، وبمفردات تحمل - على بساطتها - الكثير من الجمال والعذوبة؛ وهي توقفنا من خلالها، بطريقة ذكيّة وغير مباشرة، على المنهجيّة التي تتبعها المجتمعاتُ العربيّة في استيلاد النماذج السيّئة التي نصنعها بأيدينا، ونكتوي بنارها لاحقًا، مستخدمين في ذلك خاماتٍ بشريّة قد لا تكون بذلك السوء في بداياتها.
هذه الحكاية تصوِّر بجرأة كبيرة واقعًا معاشًا، نكتفي منه عادةً بالمشهد الأخير الذي يصوِّر إجرامَ بعض الأشخاص، والضرر الذي يسبّبونه لأوطانهم ولمجتمعاتهم ولأنفسهم، ونتعامى عن رؤية باقي المشاهد التي تطلعنا على المصنع الذي أنبت هذه النماذج السيّئة، وعزّز وجودها، وفاقم خطرها؛ ذلك ما قامت به القاصّة ببراعة شديدة، عندما أعادتنا إلى أصل الحكاية، وهي تتحدّث عن الطفل الذي أصبح لاحقًا منفضة سجائر، يلقي فيه الجميع أعقاب سجائرهم، ويدنّسونه بنطفهم القذرة، مشيرةً إلى أنّ هذا الطفل كان قبل ذلك مثالًا للطهر والبراءة والجدّ والمثابرة، اعتنت به والدته، وربّته التربية الدينيّة التي تراها الأمثل لحفظه من غائلات الزمان ومصاعبه؛ يتجلّى ذلك في قول الراوي العليم: «ودّعته أمّه بقبلة بعد أن وضعت «جزء عَمَّ» في كيسه النايلون، كن ولدًا مطيعًا واسمع كلام الشيخ هكذا قالت» (انتهى سردها). في الواقع، ليتها لم تقل له ذلك، فلولا نصيحتها تلك التي ألقت به في براثن ذلك الشيخ القذر المتستِّر بتعليم القرآن الكريم، لكان من الممكن أن تذهب حياته في مسار مختلف، وألّا تكون تلك نهايته؛ فهي قد وضعته - بدون قصد - على بداية الطريق المملوء بالثعابين التي بدورها أجبرته على الصعود إلى الهاوية.
قد تتعجّبون من حديثي عن الصعود في وقت كانت الحكاية في مظهرها الخارجيّ تحدّثنا عن السقوط. كنت سأقول بذلك أنا أيضًا، لولا السلَّم الذي وضعته الكاتبة عنوانًا للحكاية؛ فلا أظنّها اختارته اعتباطًا، بل أكاد أجزم أنّه لم يأتِ من فراغ وإنّما تعمّدت الإتيان به حتّى تأخذ بأيدينا لفهم المعنى العميق الذي تريد إطلاعنا عليه بعيدًا عن الحكاية السطحيّة المألوفة؛ فهي تدرك تمامًا أنّ العنوان يشكّل عتبة مهمّة جدًّا في القصّة القصيرة، وقد يكون جزءًا من الحكاية يختصر مغازيها، وهو بالفعل كذلك في هذه السرديّة؛ فحديثها عن الثعبان والهاوية السحيقة التي بدأ ينزلق إليها الطفل، وكاد يصل إلى قاعها - أو أنّه وصل بالفعل مع كلّ حالة اغتصاب كان يتعرّض لها - يُظهر أنّ السقوط الذي أصبح يعيشه مع تنامي السرد، لا علاقة له بالسُّلَّم، فالطفل كان يسقط في كلّ مرة إلى هاوية أعمق من سابقتها، والسقوط - كما هو معلوم - لا يحتاج إلى سلّم. إذًا، لِمَ أتت بالسلَّم وجعلته عنوانًا أو جزءًا من العنوان، وهي تدرك يقينًا هذه المسَلَّمة؟
في ظنّي، كان هدفها أن تأخذ بأيدينا لفهم فحوى الرسالة التي أرادت إيصالها من خلال هذه الحكاية؛ فهذا الطفل الذي تكرّر سقوطه في الهاوية، لن يمكثَ فيها طويلًا، كونه، في ما بعد، سيصعد على درجات السلَّم، حتّى يصبحَ هو الآخر ثعبانًا سامًّا يتمدّد على شفير الحفرة ويلدغ غيره، ويُسقطه في الدرك الأسفل الذي صعد للتوِّّ منه؛ حتّى إذا أوشك هذا المغدور الجديد على الغرق في اللّجّة التي وصل إليها، سيجد سلّمًا أمامه يصعد عليه، ويقوم بدوره بنشر السموم التي أوشكت أن تمحو أثره، كما يحدث عادة في لعبة السلّم والثعبان التي استخدمتها الساردة فضاءً مكانيًّا يوصلنا إلى مغزى الرواية الحقيقي؛ فهذه اللعبة في قوانينها وطريقة لعبها تجعلك تتأرجّح بين الخسارة والربح، تبعًا لما تقتضيه أحجار النرد أو يفرضه الحظّ بشقَّيْه السيّئ والحسن. وكأنّ المؤلِّفة من خلال ذلك تريد أن تصوِّر لنا الحياة على أنّها تخبط خبطَ عشواء، بحيث توصلنا مصادفة إلى قمّة المجد باستخدام سلَّم تقدّمه لنا من دون جهد كبير منّا، أو تقذف بنا إلى مستنقع الفشل من خلال سلَّم صُنعت درجاتُه على وقع أدمعنا ومعاناتنا...
بذلك ندرك أنّ قصّة «السُّلَّم والثُّعبان» ليس المقصود بها تلك اللّعبة الكلاسيكيّة القديمة أو لعبة الحظّ الشهيرة، وإنّما ترمز إلى الحياة التي نعيشها في كثير من الأحيان، متأرجحين بين الصعود أو السقوط، وكأنّنا مسيَّرون. فهل أرادت الكاتبة أن تختزل الحياة في لعبة الحظّ، مشيرةً إلى أنّنا نتشكّل وفق إرادة القدر، وأن لا ذنب لنا في مآلاتنا؟
في الواقع، أنا على يقين من أنّها لم تكن تريد لنا الذهاب في هذا الاتّجاه فقط لفهم حكايتها، رغم إيمانها بالدور الذي تلعبه أحجار النرد العشوائيّة في تحديد مساراتنا الحياتيّة، وعدم إنكارها أنّنا قد نكون ضحايا حظٍّ عاثر أو نتاج حظٍّ حسن؛ يؤكّد ذلك التفاصيل الواردة في ثنايا النصّ، كقولها: «كان السلّم الصعب خياره، في كلّ خطوة صعدها كان سوط اللوم يُلهب ظهره ويعلّم في روحه، ومع كلّ خطوة للأعلى كان شرفه ينزلق إلى هاوية الفضيحة». هذه الدلالات السيميائيّة لا يمكن تجاهلها في سعينا لفهم الحكاية، لا سيّما إذا أضفنا إليها الخطأ الأوّل الذي وقعت فيه الأمّ حين أوعزت إلى ابنها بأن يطيع الشيخ طاعة مطلقة، فكانت هذه الطاعة العمياء للشيخ، والتنزيه المطلق، الشرارة الأولى أو درجة السلَّم الأولى التي أخذت بيده إلى الهاوية؛ وظلّت تتكرّر أخطاء هذا الطفل حتّى بعد أن كبر، فهو لم يكن حذرًا بما يكفي للنجاة بنفسه حين ظنّ أنّ المدرِّب المشغول بتنمية عضلاته لا يلتفت لغرائزه، ويمكن منحه الثقة، فنال منه لدغة سامّة لم يتوقّعها، أجهزت على ما بقي منه. لقد كانت قراراته دائمًا غير صائبة، تفتقر للحكمة والتأنّي، وتخضع للتلقين الذي تربى عليه، إضافةً إلى ما شابها من حظٍّ سيّئ، لا يمكن تجاهله، إذ كان في كلّ مرّة يقع في المصيدة التي يخشاها، حتّى وصل إلى النهاية المأساويّة.
ذلك ما يجعلنا نقول، استنادًا إلى تفصيلات هذه الحكاية الجميلة، أنّ الحياة - في منظار المؤلّف - هي بالفعل أحجار نَرْد تحتمل الربح والخسارة، لكنّنا نحن من يمسك بها ويرميها، بينما كان في وسعنا ألّا نرهن حياتنا للحظّ، فالخاسر والكاسب في مثل هذه الألعاب يُلام على اختياره هذه اللعبة، وقراره المجازفة بالموافقة على شروطها، كحال لاعب القمار الذي يحاسَب وحده على الخسارة، ويستحيل نسبة فشله في المحافظة على ماله إلى الحظّ. لذلك، لا يمكننا إلقاء كلّ اللوم على اللعبة طالما أشركناها برضانا في تحديد مصيرنا، فهي مهما بلغت من القوّة لن يكون بمقدورها اختزال الحياة في سلَّم يصعد بنا إلى القمّة أو يهوي بنا إلى القاع، لولا أنّنا سمحنا لها أن تكون هي السُّلَّم والثُّعبان.