د.أحمد بن محمد الدبيان
تُعدّ الحروبُ والأزماتُ العالميةُ من أكثر أسباب الحراك التاريخيّ والحضاريّ في العالم؛ فهي وإن حملت شراً خطيراً، ومآسي عديدة، لكنها تحمل دروساً وعبراً للمعتبر، ومنهجاً لما بعد الكارثة لمن يحسن التدبر ويُعمل العقل.
ولكثرة الحروبِ والنكساتِ في منطقتنا العربيةِ والإسلاميةِ ووجودِ الديانات السماوية الثلاثة فيها تطوّر لدى اليهودِ والنصارى والمسلمين ما يسمّيه الأدباءُ ومؤرخو الأديان (الأدبَ الرؤيوي). وهي تسميةٌ أوروبية قديمةٌ ذات علاقة بالكتاب المقدس، وليقابله المسلمون بالمصطلح الإسلامي (علامات آخر الزمان أو علامات الساعة). ومع استمرار الأزمات وامتدادها عبر التاريخ تتطور هذه الرؤى والآداب والمواقف.
وآخر أزمة عالمية حدثت، وما زلنا نعيش في عقابيلها، هي جائحةُ كورونا. وهي نازلةٌ عامةٌ، كما نعلم، وأوقفت اقتصادَ العالم إلا قليلاً. وهذا أمرٌ مألوفٌ معروفٌ في الجائحات العامة كما نرى في كتب التاريخ وتاريخ الحروب. والجانبُ المهم هنا هو أن هذه النازلة مع كلِّ ما أصابتنا به من فقدِ أحبابِ، وفرقةِ أصحاب - عليهم سحائب الرحمة والرضوان، قد جلت أمامنا حقائق وقيماً إنسانيةً، ربما كانت غائبةً عن أذهان كثيرٍ منا. وصار من المهم بل الواجب أن يعيها العالم لنستفيدَ من النازلة أكثر من أن تمر بنا، ونؤرخ لها، ثم لننسى بعد ذلك، ولتصبح ذكرى كالموت الأسود في أوروبا وطاعون بغداد وطاعون عمواس وطاعون القاهرة ...وغيرها مما أرّخ له المؤرخون.
والشدائد محك الإيمان كما يقال، ولا أناقش هنا مدى ضعفنا وافتقارنا إلى الله تعالى، وأن الجائحة نذير للبشر وأن الاستقامة هي الحل هذا أمر نحتاجه كل وقتٍ وحينٍ.
وإنما أقصد هنا أن الجائحة أظهرت حقائق عن حياتنا، وعيوباً اكتنفت معيشتنا وطرق تفكيرنا فمثلاً كشفت الجائحة أمام أعيننا الكليلة مقدار الفقر في العالم، وأظهرت حاجة الناس بعضهم إلى بعض، وبيّنت لنا مدى قيمة الترابط الإنساني والتعاون الدولي في السلم والخير، كما أظهرت لنا مقدار العجز الفردي، وكأنها تقول بلسان الحال إن المصائب الكبار يجب أن تتلاشى عندها الخلافات أو تتأجل لوقت أفضل، وأن صوت العقل في النوازل الكبرى هو الذي ينبغي أن يسود. وهنا تأتي قيمة الجود والإيثار والحكمة في النظر إلى الأمور.
وأظهرت لنا هذه الجائحة قيمة العلم والتطور للعلوم التطبيقية، وأهمية دعمها واحتضانها ودعمها لمستقبل البشرية وسواء اتفقنا أم اختلفنا على التطعيم أحقٌ هو أم لا فإن العلم يفصل القول أخيراً. وهنا تأتي قيمة العلم والنهضة الفكرية.
أظهرت لنا الجائحة فيما أظهرت لنا أن العالم واحد وأنه للجميع، وأنه لا يمكن لك أن تعبث به وحدك، فالعبثُ به خطر على الجميع، وليس على من نكرههم فقط، وهذه هي المسؤولية التي نصت عليها الأديان وفي طليعتها ديننا الكريم. وهذا الأمر يجرّ إلى الأذهان الحديث عن أسلحة الدمار الشامل والقنابل الذرية والنووية التي اخترعت وصنعت بجنون أيام الحرب الباردة، وكأن من صنعوها وحفظوها في مستودعاتهم سيحاربون قوماً يعيشون على كوكبٍ آخر بعيد؛ فيقومون هم بتدميره ويرجعون إلى بيوتهم سالمين غانمين في كوكبهم البعيد...وهنا تأتي قيمة العلاقة الإنسانية بين البشر بعضهم ببعض، وقيمة الثقة المتبادلة المشتركة، وقيمة العمل المشترك واحترام الثقافات..
أظهرت لنا الجائحة على مستوى الدين مدى تقارب وجهات النظر الدينية في حل مشكلات العالم، وأنها تشترك في قيمة السلم وقيمة التعاون وقيمة الحقوق البشرية وحقوق الإنسان.. وأهمية تضافر الجهود وترابطها وتكاتفها في مواجهة الأزمات العامة والخاصة، وهنا تأتي قيمة حسن العلاقات والتعايش، وقيمة مساواة البشرية، وأن التعاون هو الذي يجدي في مثل هذه الظروف وليس التعصب، والشوفينية القاتلة سيئة العاقبة.
كشفت لنا الأزمة أننا نعيش في جو ملبدٍ بغيوم سوداء قاتمةٍ من عدمِ الثقة والشك في الآخر، وأظهرت لنا أننا نعيش في عالم مكتنزٍ بالمعلومات الخاطئة، وأظهرت لنا أن هناك من يتعمدون تضليل البشر، وإدخال الشك عليهم وتخويف بعضهم من بعض... وهنا تأتي قيمة التحقق وعدم العجلة.
أظهرت لنا هذه الجائحة بإذن ربها أن الحرب البيولوجية خطيرةٌ جداً، وأن سباق التسلح وهم خطير وكابوس مرعبٌ، وأن غرور بعض مجانين السياسة العالمية وأحلامهم بتدمير الآخر والرقص على أشلائه غير ممكنة، وقرعت عقولنا بأمرٍ مهولٍ وهو أننا يمكن أن نواجه هموماً أخرى مشتركة وكارثيةً ووشيكة الوقوع وعميقة الأثر ومنها: تلويث البحار، وتدمير الغابات، وإبادة الأسماك، والحيوانات. وهنا نتذكر قيمة حماية البيئة، ومنع التلوث، ورعاية الطبيعة التي خلقها الله ووزنها بمعيارٍ يخترق العقل البشري إعجازاً ودقةً...
وكشفت لنا أيضاً أن الرأسمالية المحضة يمكن أن تكون وحشاً ضارياً تلتهم الضعيف، وتدمّر القوي، وتستنزف الموارد، وقد تزيل الرحمة والمواساة من قلوب الناس، لتحول العالم إلى سباقٍ ماديٍّ نحو الغنى الكاذب، والصراع القاسي من أجل البقاء...مع أن الله لم يخلق الحياة هكذا، بل جعل قيمة الإحسان من أعلى القيم.
ومع كل ما أظهرته نازلة كورونا بإذن ربها للعقلاء والمتدبرين، إلا أن هناك قوماً ما لبثوا أن خرجوا من قاعة دروس كورونا، ليقرعوا طبول حرب أوكرانيا, والله أعلم أين ستنتهي؟ وكأن كورونا لم تكن، ولم تعلمنا شيئاً.