كانت محاولة للفت الانتباه نحو تأثير الجماعة القوي على الفرد وظلت المحاولات لسنوات تحلق في الأفق إلى أن رأت النور بفوز ليسنج بجائزة نوبل. هذا الكتاب كان عنوان سلسلة من خمس محاضرات ألقتها «دوريس ليسنج» برعاية هيئة الإذاعة الكندية في عام 1985 أي قبل فوزها بجائزة نوبل بعشرين سنة, الكتاب يضم خمس محاضرات 1-عندما ينظرون إلينا من المستقبل 2- أنتم ملعونون ونحن الناجون 3- الانصراف إلى مشاهدة مسلسل 4- عقل الجماعة 5- مختبرات التغيير الجماعي.
وأسلط الضوء هنا على المحاضرة رقم 4 عقل الجماعة وذلك لسبب وجيز (أخي الذي كان يرتدي حقيبة ظهر لم يعد كذلك واستبدلها بسجادة يلف الكتب بها) ما لفت نظري هو حين سألته لماذا؟ قال إن في الثانوية التي أصبح يرتادها لا أحد يحمل حقيبة ظهر للكتب إلا قلة قليلة وجدها منبوذة من الآخرين، قلة شاذة ينعتونهم بالمائعين وأن في حمل الحقيبة تجاوزاً للحدود وتقليلاً من الرجولة. لم يكن قد انسلخ من أفكاره التي ظل يؤمن بها بل وكأنها لم تكن قط فكيف أصبح بهذا التفكير؟ أدهشني هذا التغيير المفاجئ في شخصيته, فقد تحول من ضحوك هادئ إلى غاضبٍ حانق طوال الوقت وأصبح يتحدث بطريقة لا تشبهه, لم يعد أبداً كما كان والمدهش أنه أبداً لم يحس بالتغيير, والفكرة كانت هُنا في هذه النقطة الصغيرة، وهذا التغيير البسيط من حقيبة إلى سجادة ثم الانخراط مع الجموع في العادات والأفكار وحتى طريقة الكلام والمشي مشمر الساعدين عاقد الحاجبين يشتم في القبائل الأخرى ويمجد قبيلته، «نعيش حياتنا جميعاً في واقع الأمر في جماعات: الأسرة، وجماعات العمل، وجماعات اجتماعية، ودينية، وسياسية. ولا يشعر بالسعادة في العزلة سوى قلة ضئيلة من البشر» هذا ما قالته ليسنج عن وضع الإنسان بشكلٍ عام مضيفة على ذلك قولها «لا يحتمل أغلب الناس البقاء بمفردهم لفترة طويلة، بل يبحثون دائماً عن جماعات للانتماء إليها وحين تنفضّ واحدة يبحثون عن أخرى. فنحن ما زلنا حيوانات جماعية ولا ضرر في ذلك، فالخطر ليس في الانتماء إلى جماعة أو جماعات، بل في عدم إدراك القوانين الاجتماعية التي تحكم الجماعات وتحكمنا» وهذا ما قد يفعله المرء هارباً من الوحدة فاراً من شباكها. وهذا أيضاً ما فعله أخي حين قرر بعد يومين من بقائه بمفرده في مدرسة لا يعرف فيها أحداً وغريبٌ عنها لحمله حقيبة ظهر، إلى تركها والذوبان في نهر الجماعة بسلاسة، وذلك لأنه رأى بلا شعورٍ منه أن البقاء مع الجماعة خيرٌ له ألف مرة من معاكستها ومجابهة تيارها القاسي ولأنه بذلك أي بعد الانضمام لجماعة يصبح قوياً بقوتهم. وهذا ما خلصت إليه ليسنج في محاضرة عقل الجماعة بعد العديد من التجارب والاختبارات التي أجرتها على أُناس لم يتوقعوا الخضوع وخضعوا لمجرد أنهم شعروا بالقوة المعاكسة لهم وقرروا عدم مجابهتها وإحداها كان «يأتي الباحث بمجموعة من الأشخاص ويُطلعهم على التجربة، ويترك أقلية من شخص أو شخصين على جهلٍ تام بما يجري. ثم يختار موقفً ما يتطلب قياساً أو تقديراً، مثل مقارنة أطوال قطع الخشب لا تختلف عن بعضها إلا اختلافات بسيطة، ولكنها تكفي للملاحظة. تؤكد الأغلبية في المجموعة - بناءً على توجيهات - بعناد أن الأشكال أو الأطوال هي نفسها، بينما يؤكد الشخص أو الشخصان اللذان تُركا دون تعليمات أن قطع الخشب مختلفة. ولكن الأغلبية تُواصل الإصرار وبعد فترة من الانزعاج وعدم الاستيعاب سوف تساير الأقلية الجماعة وهذا ليس دائماً بل يكاد أن يكون دائماً أي أن الأغلبية في مواقف مشابهة ترضخ وتذعن للسياق العام وموضحة لنا خطأنا في الخضوع للرأي السائد فقط لأن الأكثرية قد سبقونا إليه مهما كنا نراه خطأً فهو الصواب ما دام الفرد يسلم بالأمر ولا يتمسك برأي عقله وهذا ما وجدت عليه أخي بعد فترة أسبوع وأكثر من وجوده في الثانوية الجديدة والمليئة بالجماعات القبلية شديدة الصرامة.
يبدو لي الأمر من الخارج قاسياً على شابٍّ مثله ولكن ما يراه كل يوم في الداخل قد تمكن منه وشرب حتى تشبع وارتوى وأصبح من الصعب انتزاعه، فيجب أن يرى بعين عقله أن الخطأ خطأ حتى يفارق القطيع وهذا ما آمله. ولذا ألحت ليسنج بعد تجاربها وحذرتنا بقوة هذا التأثير فقالت «إننا حين نكون في جماعة فإننا نجنح للتفكير كما تفكر الجماعة ونجد أيضاً أن تفكيرنا يتبدل بسبب انتمائنا إلى جماعة ما. ومن أشق الأمور في الدنيا أن تُبقي على رأي فردي مخالف وأنت في جماعة» فكم من مرة قلنا إن الأسود أبيض لأن الآخرين كانوا يقولون ذلك.
** **
- علا الحوفان
TWitter: @ola29x