مرحباً بالسّادة القرّاء الأكارم أهلاً وسهلاً..
الحيدة والانحراف آفتان من آفات البحث العلميّ، وسببان رئيسان لعدم الوصول إلى الحقيقة، وفقدان السّيطرة على المشكلة، والابتعاد من حلولها إن في بحثٍ ما، وإن في معالجة مشكلة ما، أو في تغلُّبٍ على صعوبةٍ ما، فلا يتحقّق مبتغى ولا يُتحصّل على ثمرة، ولا على إنجاح مسعى.
والانحراف والانعطاف عن السّبيل السّويّ من مزالق البحث العلميّ ومن مسبّباته عدم التّجرُّد لسبق الحكم، ومن مزالقه الانفعال والارتجال، وسيطرة العاطفة وتسيُّدها فإذا استبدّت بالباحث أو بالمعالج دفعته لمعارضة الحجج، ومنعته من النّظر في معطيات الأدلّة، وواضحات البراهين، بل ربّما حرّفها خدمة لهذه السّيطرة المؤدلجة.
والهوى الأدلجيُّ، والهوى السُّلوكيُّ والرّغبة الطّبيعيّة الذّاتيّة ,,الميول,, (الأنثربيولوجيّة)، وكذا استبطان حكم سابُق؛ أي: عدم التّجرُّد، ومنه أثر الجماعة أو الفريق، وكذا سطوة المجتمع المحيط بك له تأثير في بناء ذات الباحث، أو إيقاع ذلك من الباحث نفسه مراعاة لرغبات المجتمع تقرُّباً وتودداً إليه، أو خوفاً وهرباً من سطوته، كلُّ أولئك من مخارم سبيل البحث العلميّ النّزيه ومزالق يتنكّب بها جادّة الصّواب، فلا يتوصّل جرّاها إلى كبد الحقيقة، ولا يتحصّل على ناجع المعالجة.
والبحث العلميُّ له وهجٌ ونهجٌ، وهجٌ لأنّه يصار به إلى الحقيقة، ونهجٌ لأنّ له قواعد وضوابط تحكمه، فأيُّ عمل يسير وفاق منهجٍ فهو علميٌّ، وما سواه لا يعدُّ علميّاً وإن ادُّعي ذلك مدّعيه؛ لذا ممّا يشترط في الطّرح الأكاديميّ أن يكون الطّرح علميّاً.
يقابل البحث العلميّ الطّرح الارتجاليُّ إذ دافع مثل هذا هو الانفعال، وممّا يقابله أيضاً الطّرح الرّغائبيُّ إذ دافعه التّشهّي والهوى، وكلا هذين المقابلين تسيطر عليهما العاطفة، ولا يوصلان إلى حقيقة، وإنّما يحقّقان هوى في نفس صاحب الطّرح، على أنّ الطّرح الرّغائبيّ قد يخدع أو ينخدع به الباحث نفسه، وقد يُخدع أو ينخدع به غيرُ ممحّص النّظر، ويراه طرحاً علميّاً؛ لاستعماله الأدوات العلميّة لكن بتوظيفها حسب الرّغبة فيعمل منها ما يشاء ويهمل منها ما يشاء لخدمة ما في نفسه، فهذا خلاف الطّرح العلميّ الّذي عماده العلميّة بالحجج والبراهين والأدلّة، وثمرته الوصول إلى الحقيقة، والمعالجة الناجعة الرّصينة، يقول في ذلك أحد الفاحصين النُّبهاء: «وربّما خرجت الكتابة المتحيّزة في ثوب البحث الوصفيّ، أو تحت شعار المراجعة، أو النّقد التّأريخيّ».
إنّ العماد على العاطفة مشكل لأنّ العاطفة تسيّر البحث وتسير بالطّرح وفاق ميلانها تصحيحاً وتضعيفاً وتقريباً وإبعاداً على ما استقرّ عند هذا الباحث قبل بحثه، وكما قيل: العاطفة عاطفة؛ لأنّها تعطف بالشّخصّ عن المسار المؤدّي إلى الحقيقة لا في المعالجة واختيار أدواتها ولا في النّتيجة واختبارها، وخلاف هذا يكون البحث العلميُّ السّليم لا المدّعى، ففي البحث العلمي يكون الطّارح متجرّداً من عاطفته وهواه والتّسبيق بحكمٍ لذا يصل به إلى الحقيقة النّاصعة وإن كرهها، إذ الدّافع للبحث العلميّ العلم، ومستنده الحجّة البيّنة والدّليل الواضح، أمّا الطّرح الرّغائبيُّ والارتجاليُّ فالدّافع فيهما حظوظ النّفس ورغبة الهوى والأدلجة، فالباحث فيهما متحيّز غير متجرّد؛ لأنّ العاطفة مسيطرة عليه إمّا عاطفة محبّة لشيءٍ ما فيرفعه، وإمّا عاطفة بغض وكره لذلك المبحوث فيسقطه ويهوي به، وإمّا أدلجة مسيّرة.
لذا يتميّز الطّرح العلميُّ بالصّدقيّة في الأدوات، والواقعيّة في المعالجة، والمصداقيّة والقبول للنّتائج، ويستطاع الحكم عليه وقياسه من قبل الوسط العلميّ والمجتمع الأكاديميّ، خلافاً للطّرح الرّغائبيّ والارتجاليّ اللذين لا يُقبلان عند العلماء؛ لأنّهما يخالفان مبادئ البّحث العلميّ ولا يتحرّيان الحقائق، بل هما يحقّقان لصاحبهما رغائبه، ولا يقبلهما إلّا منتفع منهما، أو متوافق مع رغبة صاحبهما، أو متواطئ معه بجامع الهوى والتّحيُّز، أو الأدلجة، وهذا غير مقبول بتّةً في الوسط العلميّ، وهو مردود من جهة النّظرة الأكاديميّة؛ لأنّ الطّرح حينئذٍ سيكون ميّالاً فيه مزالق، ومستوقفات غير مقبولة لاستنتاجاته، وفيه إيرادات على أحكامه في أيّ عمل كان بحثاً أو كتاباً أو ورقة عمل.
وأمر التّجرُّد في الطّرح هو المرغوب فيه، بل هو المطلوب عند معالجة مشكلةٍ ما، أو مناقشة أمر وابتحاثه لكشف ملابساته، أو في مشكلة لمعالجتها، على أنّ التّجرُّد التّامّ قد يكون متعذّراً أو متعسّراً؛ لأنّ الإنسان ليس آلة، إذ بين جنبيه عاطفة لكنّه يتجمّل بالعقل وبه يمتاز.
وإذا كان التّجرُّد تجرُّداً تامّاً فذاك المبتغى وهو المطلوب والغاية، والطّرح حينئذٍ سيكون طرحاً علميّاً ناصعاً، والمعالجة تكون معالجة علميّة، واطّراح العاطفة واستبعاد الهوى إن كان كاملاً فذاك، وإلّا يكن ذاك فلا تكوننّ سطوتهما غالبة أو ظاهرة بيّنة، بل تقليل ذلك قدر المستطاع، وليكن وجودها في الطّرح والمعالجة هو في حكم النّادر شبه المعدوم؛ ليسلم الطّرح من الرّغائبيّة والانفعاليّة والانطباعيّة.
ولهذا كان الطّرح العلميُّ محموداً إذ هو المطلوب للوصول إلى الحقائق ولمعالجة المشكلات في شتّى ميادين العلم والمعرفة، وإن كان بعضٌ منها يقبل الانطباع وما تميل إليه النّفس كما في شيءٍ من المسائل الأدبيّة والطّروح النّقديّة الذّوقيّة، وهذه الذّوقيّة والنّقديّة والانطباعيّة تخضع أيضاً لمذاهب مرسومة ومدارس نقديّة معلومة، بل لمناهج ذات عددٍ، فليس أمرها ارتجاليّاً بحتاً أيضاً ولا عاطفيّاً أعني العاطفيّ المتمحّض. [متبوع]
** **
- د. فهيد بن رباح الرباح