ترتبط العمليات الاجتماعية بالاتصال الإنساني ارتباطاً وثيقاً، على اعتبار أن الاتصال هو المحور الذي تدور حوله هذه العمليات، ولذلك نجد أن الاتصال وأسلوبه يحددان إلى درجة كبيرة مدى نجاح العلاقات الاجتماعية واتجاهاتها التفاعلية، ولا يُمكن أن تتشكَّل العلاقات الاجتماعية بدونه، أو أن تحقق الأنظمة الاجتماعية أهدافها، وحتى تأخذ هذه العلاقات مجراها الاجتماعي، وتُبلور ما تتضمنه من مكانات ووظائف وأدوار؛ فإنه لا غنى عن الاتصال والتواصل بين الأفراد والجماعات ومن ثم المجتمعات، وهذا ما يجعل كل فرد وجماعة ومجتمع يتميز عن غيره بما يحمله من قيم أو يتضمَّنه من نظم ويؤديه من أدوار.
فللاتصال أهمية معيارية في استمرار النظام الاجتماعي أو تعديله أو تدميره كما يرى العالم (دنكان) والذي حدد دور الاتصال في المجتمع من خلال تركيزه على إقناع الآخرين بقبولهم أو تأييدهم لنظم أو سياسات أو قيم أو اتجاهات وآراء وأفكار معينة، تلك العمليات التي تؤدي في النهاية إلى تدعيم النظام الاجتماعي واستمراريته أو قد تؤدي في الوقت نفسه إلى تغيير هذا النظام أو تعديله أو تدميره ككل.
وإن كان أول عمل تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده هو إنشاء شبكة العلاقات الاجتماعية فإن قوة هذه الشبكة تستند إلى قوة الاتصال وما يُتَّخذ من أساليب إيجابية تحقق أهداف المجتمع.
وبهذا فإن للاتصالات تأثيراً قوياً على العلاقات الاجتماعية والتفاعلات والرضا ودافعية الأفراد في عملهم لذا يأتي الاهتمام بتفسير الاتصال كمركب اجتماعي يتكون من الكثير من العلاقات والمعاني والمواقف والثقافات الفرعية والكلية المعقدة.
ويمتد الاهتمام بتفسير الاتصال ليشمل عناصره وأشكاله وأساليبه، وفي القرآن الكريم نجد عرضاً لأساليب الاتصال الاجتماعية، سواءً منها ما صدر عن المُرسَلين عليهم السلام في سبيل التأثير وإقناع الآخرين بقيمٍ جديدة عليهم، ولتغيير نظام اجتماعي بكامله، أو ما صدر من بقية أفراد المجتمع الذين تفاعل معهم الأنبياء والمرسَلون في مواقف اجتماعية مختلفة؛ وذلك للحفاظ على نظامهم القائم أو لفهم ما أتى به المرسَلون من رسالة سماوية، ولعل قصة موسى عليه السلام كنموذج لأساليب الاتصال في القرآن الكريم، لما فيها من تنوعٍ في العلاقات والمواقف الاتّصالية الاجتماعية، ومن عمقٍ تاريخي اجتماعي تتوفر حوله الكثير من المراجع العلمية التي تسمح بتحليل أساليب الاتصال الاجتماعي في هذه القصة تحليلاً اجتماعياً مبنياً على عدة أطر علمية.
وبمعاني أساليب الاتصال الاجتماعية بصفةٍ خاصة، حيث وُظِّفَ البناء الاجتماعي في المجتمع المصري الفرعوني، بما يتضمنه من علاقات اجتماعية وما يجري فيه من مواقف اتصالية، كسياق يُمكن من خلاله فهم معاني أساليب الاتصال الاجتماعية، وذلك بذكر نماذج من آيات القرآن الكريم، ذُكرت فيها قصة موسى عليه السلام عند تفاعله مع كل من: فرعون وملئه والسَّحرة ووزيره أخيه هارون، وبني إسرائيل والعبد العالم.
وعبر هذه الزاوية نسلط الضوء على كتاب (النموذج القرآني للاتصال الاجتماعي في قصة موسى عليه السلام), للمؤلفة الدكتورة نورة ناصر الحمودي أستاذ علم الاجتماع المساعد بقسم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز بجدة.. كدراسة سيوسولوجية في «علم اجتماع الاتصال والإعلام» وهو من الفروع الحيوية والهامة الذي يدرس العملية الإعلامية القائمة على الاتصال من حيث العلاقات القائمة بين أطرافها المختلفة وعلاقتها مع الكيان الاجتماعي برمته, ووظائفها المرتبطة بأنظمة المجتمعات وبأشكال التنظيم الاجتماعي كبناء وعملية وهو فرع له أبحاثه ونظرياته ومقوماته العلمية.
الكتاب يتحدث عن دقة معاني أساليب الاتصال في قصة موسى عليه السلام واستخرج في محتواه أصولاً ومبادئ في فن الاتصال وطرقه وأساليبه ومعانيه عن مواقف متنوعة من النموذج القرآني للاتصال الاجتماعي. وقد تضمن ستة فصول وهي:
الفصل الأول: تناول الاتصال في المجتمعات الإنسانية وتحديد مفاهيم اتصال أساسية تم استخدامها في الكتاب لتسهيل مهمة القارئ في رصد مقاصد هذه المفاهيم ووضعه في الإطار التعريفي الذي بنيت عليه أفكار الكتاب مع الإشارة لعناصر الاتصال وأشكاله وأساليبه ومعوقاته والتأكيد على اهتمام القرآن الكريم بالعملية الاتصالية.
أما الفصل الثاني: فقد استعرضت المؤلفة فيه النظريات الاجتماعية وربطها بالاتصال حيث اختيرت لمعاينة وتحليل قصة موسى عليه السلام وهي النظرية البنائية الوظيفية, والنظرية التفاعلية الرمزية, والنظرية الاثنوميثولودوجية, وتحدث الفصل الثالث عن البناء الاجتماعي في المجتمع المصري الفرعوني وتم فيه تناول تاريخ هذا البناء وتجلياته لما له من أهمية لتحليل أساليب الاتصال الاجتماعي في قصة موسى عليه السلام.
في حين خصص الفصل الرابع لتناول قصة موسى عليه السلام في القرآن الكريم وذلك بحصر العناصر الاتصالية في هذه القصة العظيمة وشرحها للقارئ الكريم لإيضاح أبعادها وأدوارها وسياقاتها, ومن ثم استعراض أحداث قصة موسى عليه السلام وتفاصليها ووصولاً إلى تبيان المواقف الاتصالية الحاصلة بين موسى عليه السلام والمشاركين الداخلين معه في علاقات اجتماعية متنوعة.
أما الفصل الخامس فقد عرض تحليل معاني أساليب الاتصال الاجتماعية مركزاً في استثمار كل المعارف والتحديدات والشروحات السابقة ليقوم بقفزة إلى الأمام تشمل تحليل المواقف الاتصالية في قصة موسى عليه السلام ضمن أبعادها المختلفة من علاقات اجتماعية متنوعة سلطوية وتبعية وتساندية وتعلمية.. وفي الفصل الأخير استعرضت المؤلفة النموذج التصوري القرآني للاتصال الاجتماعي وهو الفصل الختامي الاستنتاجي الذي يلخص تحليلات ومناقشات الفصول السابقة ويهتدي إلى نموذج تصوري أمثل للاتصال مبني على تفسير أبعاد الاتصال في قصة موسى عليه السلام المطروحة في القرآن الكريم.
الكتاب جاء بمحتواه الثري الذي ينطلق من المنهجية العلمية والمفاهيم السوسيولوجية للمؤلفة والأفكار الرئيسية والمهمة لعلم اجتماع الاتصال والإعلام ليشكل إضافة علمية في مكتبة علم الاجتماع العربية وتراثها الأصيل.