يمثل الشيخ محمد بن ناصر العبودي (1345هـ-1926م/1443هـ-2022م) -رحمه الله- حالة خاصة في سياق السرد الرحلي في الأدب السعودي المعاصر؛ إذ إنه يكاد يتفرد وحده بكرسي الأستاذية، وتكاد كتاباته تحظى بامتياز الريادة؛ لما تتسم به من مكانة تأسيسية دفعت بالنصوص الرحلية التقريرية إلى عالم التجنيس الأدبي سابقًا غيره من الكتاب والباحثين.
وإذا كانت التقريرية هي السمة البارزة في السرد الرحلي عند العبودي فإن ذلك لا يطعن في ريادته ولا في تأسيسه نصوصه، وإنما تسربت تلك التقريرية إلى كتابات العبودي من أبواب متفرقة لعل أبرزها هو ذلك المزيج الفريد الذي يشكل من كتاباته جنسًا أدبيًا توزعت أركانه بين الرحلة والسيرة واليوميات والتقرير، لكنها جميعًا منحته طابعه الخاص الذي منح النصوص شرعية الانتساب إلى عالم السرد الفسيح الواسع الثري المفعم بالانخراط في عوالم البشر المضمخ بعرق الإنسان في الشوارع والدروب. ولذلك جاءت كتابات العبودي مزيجًا من تلاوين أسلوبية وجغرافية وعقائدية ونفسية وإنسانية وأنثروبولوجية في الوقت ذاته، وهي مع كل هذا الزخم ترتدي رداء البساطة وتجنح إلى السهولة والمباشرة.
والسرد «في شرق البرازيل» يستمد من مصادر شتى، فهو يرتكن إلى التاريخ حتى يربط حاضر الرحلة بماضيها، وهو ما يوفر للرحلة أصلها المعرفي بجانب ملامحها الإنسانية والطبيعية الحاضرة، وهو ما يتجلى في رصده ملامح إحدى ولايات شرق البرازيل «بهية» من حيث أصلها العربي، ومن حيث خصائصها الطبيعية، ومدى ما تملكه من ثروات زراعية ومعدنية ونفطية، ويمزج بين كل ذلك وبين فكرة التلوين الاستعماري الذي خضعت له ولاية «بهية» التي تنازع عليها الهولنديون والإنجليز والبرتغاليون بدءًا من القرن السابع عشر الميلادي.
وفي الخطاب الرحلي تهيمن المعرفة على فنية السرد عند العبودي؛ وهو ما يتجلى في احتفائه الشديد بالتفاصيل واهتمامه المفرط بإيراد الدقائق التي تتصل بأهل المنطقة، وهو ما يعكس اهتمامًا بالإنسان في علاقته بالمكان. والعبودي في سبيل تجسيد هذه العلاقة الأزلية بين الإنسان والمكان لا يكتفي بالعودة إلى التاريخ لكنه يستمد من الواقع الحاضر الذي يوثق مادته من أفواه العابرين فيجد القارئ في سياق المقال إشارات إلى موجات الهجرة التي بدأها اللاتينيون من جنوب أوروبا، وشذرات من تكوين ممالك الزنوج اعتمادًا على اتحاد اللغة في مواجهة اختلاف الأصول، وفي هذا السياق نجد إشارة إلى جموع من الأفارقة الذين بنوا لأنفسهم كيانًا بزعامة ملك لهم يدعى «زومبي» الذي حاربه المستعمر الهولندي الأبيض المتعجرف حتى أزال سوادهم في عام 1695م، وهو بذلك يؤرخ لمسارات من المواجهة بين الأبيض والأسود.
وعلى صعيد البشر كان السرد الرحلي عند العبودي مفعمًا بالإشارة إلى ملامح العرق البرازيلي الذي يتأرجح في سياق التلوين بين الأبيض والأسود مشكلًا ضربًا من اللون البرونزي «المولاتو» الذي هو خليط من تزاوج ثلاثة أجناس: هم السود الذين جلبهم البرتغاليون، والهنود الأمريكيون السكان الأصليون، والبرتغاليون الأوروبيون، وهو إشارة إلى خليط يحبه البرازيليون بين الليل والنهار.
ومما يلفت القارئ «في شرق البرازيل» ما استدعاه العبودي من تشابه جمع بين نساء «بهية» وأقرانهن من العربيات نتيجة تزاوج الألوان الثلاثة في موطنهن» بهية»، وهو استدعاء يلقي بظلاله على ذهنية القارئ مثيرًا فكرة حضور النصوص عبر آلية التناص، لكنه ليس التقاء حروف وإنما التقاء ملامح أفلتت من عقالها في مهرجانات البهجة وكرنفالات «ريودي جانيرو» التي تعد معرضًا جامحًا لأشتات من البشر.
ويطعم العبودي رحلته»في شرق البرازيل» بطعم الذكرى موظفًا أيقونة «الفردوس المفقود» حينما يشير إلى ضياع الإسلام في «ولاية بهية»؛ حيث نشط المنصرون، فانقطعت العرى بين تلك البقعة وروح الإسلام فانطفأت أنوار المآذن لتحل محلها صلصلة الأجراس وقرع النواقيس. ومن بهية إلى الأندلس إلى فلسطين يمدُّ العبودي رباط الوجع من الماضي إلى الحاضر في سرد رحلي يقوم على جمع الأشتات ومزج المتنافرات والتمكين للتلوين المعرفي والجغرافي والإنساني؛ وهو ما يجعل نصوص السرد الرحلي عند العبودي معرضًا تجد فيه الذات دروبا متعددة من الفائدة والإمتاع في الوقت ذاته.
** **
د. رقية بنت ناصر الحربي - جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن