د. محمد بن إبراهيم الملحم
عندما نتحدث عن ثقافة العمل فيمكننا أن نميز عدداً من الأمراض التي ضربتها لدينا، وأستعرض بعضها اليوم لتكون منطلقاً للحل فيكون البدء بالتخلص منها ليتعافى جسد التعليم في بيئة عمله، وبعدها تأتي تقوية ثقافة العمل بممكنات ومجالات داعمة تعززها وترتقي بها لتصبح تلك الثقافة تربة صالحة للتغيير والتحديث والتطوير. أهم الأمراض هو مرض اللا مبالاة الذي ينشأ من مفاهيم مثل: «اعمل على قدر راتبك» و»لن تصلح الكون لوحدك» و»الباب الذي يأتيك منه ريح سده واستريح» بمعنى ألا يفتح الإنسان على نفسه «باجتهاده الزائد» أبواباً كانت مغلقة، والمشكلة الكبرى أن بعض هذه المقولات لها بعض رصيد من الحقيقة أثبتته التجارب والأيام خاصة في ظل تصرفات بعض موظفي القيادة الوسطى مثل مديري المدارس والمشرفين (وبعض المسؤولين أحياناً) حيث يتراجع الفهم الجيد والتصور الصحيح لبعض التصرفات الإبداعية فتكون سبباً لنقد صاحبها، بينما كان يجب أن تكون سبباً للثناء عليه، وهذا النقص في الفهم سببه الحاجة الماسة إلى من يشغل مثل هذه المواقع القيادية في ظل عدم وجود حوافز مادية أو معنوية لهم مما يجعل عدداً كبيراً من المتميزين (الفاهمين) يعرضون عنها، فيقبل عليها بدلاً منهم من يطلب المنصب لأجل المنصب، وهؤلاء غالباً أقل حظاً في ثقافتهم التربوية، فهم غالبا نمطيون لا يتمكنون من رؤية التصرفات غير النمطية لدى بعض المعلمين أو غيرهم من الممارسين التربويين فيحصل الصدام. ولا زلت أذكر كيف (في التسعينيات) كانت طريقة «التعلم التعاوني» التي بدأت في الظهور لدينا والتي تقتضي تغيير ترتيب مقاعد الطلاب في الفصل محل هجوم عدد من مديري المدارس النمطيين باعتبار مثل ذلك المعلم الذي يعد نفسه مبدعاً يقوم بإحداث فوضى في المدرسة فهي فوضى في أثاث المدرسة وفوضى تأتي من حديث الطلاب المستمر في مثل هذا الفصل «التعاوني» حيث يتشاور الطلاب باستمرار فهم في حديث دائم طوال الحصة، وهذا لا يشعر المدير النمطي بالراحة! كذلك كان استخدام بعض المعلمين للكمبيوتر لطباعة تحضيرهم غير مقبولة لدى أغلب المشرفين التربويين! والأمثلة في ذلك كثيرة ومتنوعة جداً. وهو ما تسبب في نشوء ثقافة عمل سلبية أمام التجديد.طبعاً يكمن الحل في حسن الاختيار أولاً ثم في تأهيل وتدريب وتثقيف القيادات الوسطى ثانياً وبمستوى نوعي عال من التأهيل مما يضمن تحولهم إلى وكلاء داعمين للتطوير والإبداع وثقافة العمل التغييرة.
من ضمن أمراض ثقافة العمل عدم تكريم المعلم (أو التربوي في أي مجال آخر) الذي يؤدي عمله بشكل متقن ومميز فهو وزميله متوسط الأداء على حد السواء تقريباً، وسبب ذلك غياب ثقافة التقييم الأصيل، فالتقييم شكلي والرؤساء غير مؤهلين للتقييم أصلاً ولا يتقنونه، والمنهج السائد لدى كل الرؤساء تقريباً (حتى في مجالات غير التعليم) أن الرئيس يتذكر آخر حسنات لمن يقيمه قبيل تاريخ التقييم، ولذلك فإنه من المشهور لدينا أن الموظف الذكي هو من يتعرف على تواريخ دورة التقييم السنوي وفي أي شهر يكون عادة فتجده قبلها بشهرين يقدم أداءات مبهرة ويكيل المديح للرئيس ويحاول إرضاءه بأي طريقة ليضمن تقييماً عالياً خلال هذه الفترة. هناك عدد قليل بل نادر من الرؤساء يحتفظ بسجل خاص للتقييم ينظر فيه كل أسبوع أو حتى كل شهر ليدون فيه مذكراته التقييمية والتي تكون أيضا على معايير واضحة معلنة للجميع بفهم موحد بينه وبينهم وبالتالي فهو يعرف المقصر ويعرف المتقن كلاً بشواهده، ومثل هؤلاء لا ينطلقون من تدريب وتأهيل بل من اجتهاداتهم الشخصية.
ثقافة عمل كهذه ينقصها التقييم لن يكون فيها تكريم للمعلم المتميز (إلا في المسابقات المعدة بنظام وتنظيم معين فهذه ليست ضمن إطار ثقافة العمل) والسبب أن من يقيم ليست لديه مرجعية تقييم عادلة، بل الأدهى والأمر أن بعض الرؤساء قد يكرم فعلاً أحد مرؤوسيه (معلما أو موظفا) لأنه قام بعمل فردي معين أبهر الجميع (بينما قد لا يكون طوال السنة متميزاً في عمله!) وفي نفس الوقت يمكن أن يكون معه في نفس المؤسسة (أو المدرسة) من يقدم أداءات «يومية» متميزة لكنما الرئيس لا يراها لأنه ببساطة لا يتابع العمل اليومي كما أسلفنا، وهكذا فإن تكريم زميله الأقل في الأداء اليومي ولكنه أفضل في الترويج لمشروع معين أبهر الرئيس هو في الواقع إحباط لمن يعمل بصمت بكل إتقان وإخلاص ويقدم لطلابه عطاءً متفرداً. هذه التصرفات الغبية من بعض القيادات الوسطى تخلق ثقافة عمل سلبية لا ينمو فيها الإبداع (باستثناء الإبداع الصوري المعد للفرقعات الإعلامية) ولا يسير فيها التجديد كما خطط له بل يتحول بطريقة أو بأخرى إلى تجديد شكلي لا روح فيه.. ومرة أخرى يكمن الحل في حسن الاختيار والتأهيل بالتوعية وتقوية ثقافة القيادات، وهذه رحلة طويلة لكن لابد لها أن تبدأ يوماً ما، ولا أدعي أن ما ذكرت هو حصر لأمراض ثقافة العمل ولكنهما مجرد مثالين صارخين.