رضا إبراهيم
لا يوجد شك، في أن موقف الإنسانية من (التقنية)، لهو موقف يتميز بحالة من اللبس والغموض، أو تطبعه ثنائية أكثر عمقاً، تتسم بالقبول تارةً والرفض تارةً أخرى، أو الاستعمال أو الاستنكار في عدة حالات، والتقنية لها من الإغراءات المؤدية لجذب الإنسان، بمباهجها وسحرها ومتعها، والتقنية قلَّصت المسافات واختصرت الأزمنة، ووفرت على البشرية الكثير من الجهد والعناء، وبالأخص في ظل الثورة التقنية الثانية، التي وصلت إلى درجة أقل ما توصف بأنها مذهلة.
وفي ظل القوانين الجديدة التي غزت كافة الميادين، وبالأخص الميادين الفكرية، بات لفظ الاستلاب من الألفاظ الأكثر تداولاً والمستهلكة بكثرة، بل حظي ذلك اللفظ باعتباره مفهوماً دون غيره بأسبقية، وأصبح زينةً للأحاديث وحِلية لكثير من المقالات، والواقع أن الذي ساعد على جواز ذلك اللفظ أو المفهوم، الحاجة الماسة للتعبير عن أمر معين أو واقع ملموس، وهو ما عمل لفظ الاستلاب على تقديمه باستجابة سريعة، فاستخدمه هيجل كمثال، للدلالة على انفصال الفكر أو الروح عن ذاته في عملية خلق الموضوعات، لأن الموضوعات هي تحقق موضوعي للفكر أو انفصال عنه أو استلاب له.
كما استخدمه كانط أيضاً للدلالة على عدم اكتمال أو غُربة الآنا الظاهري بالنسبة إلى الآنا النوميني، فيمكن أن يشعر العامل بأنه مستلب بالنسبة إلى عمله أو نشاطه، لشعوره بأن عمله لم يكن عملاً إرادياً، لكنه بدا عملاً إرغامياً، ويصبح العامل غريباً عنه ويشعر بذات الوقت بأن عمله هذا عمل خارجي بالنسبة إليه، وأنه ليس إثباتاً لذاته، بل تنكراً ونفياً لها، وتأكيداً على ذلك يقول كارل ماركس (إن استلاب العمل يتجلى في أن العمل خارجي بالنسبة إلى العامل، أي لا ينتمي إلي كينونته، وبالتالي فالعامل لا يثبت ذاته في عمله، بل العكس فهو يتنكر لذاته في العمل)، وكثيراً ما سمعنا عن الاستلاب الإيديولوجي والاستلاب السياسي والاستلاب الاقتصادي، والاستلاب التقني، وهو مجال حديثنا في السطور القادمة.
إن توافر الإبداعات التقنية، وتسارعها أصبحا من الأمور التي يصعب جداً متابعتها أو حتى استيعابها، الأمر الذي يولِّد لدى الفرد رد فعل المتفرج المشدوه أمام طفرات تكون أشبه بالسحر، والتباين الثقافي جعلنا نقف من مظاهر التقدم موقف البدائي من النظم الآلية والحواسيب، والواضح أن التحديث يفرض نفسه بشكل مستمر، ومن ثم تجد الدولة نفسها ملزمة بمواكبة واستيعاب بعض مظاهر التقدم التقني والعلمي بشكل لا مراء فيه، كما أن التقنية التي نصبو للمساهمة فيها، لم تكن أبداً مشروعاً بريئاً أو محايداً، لكنها تعتبر جزءاً من مشروع كوني، وامتداداً لرؤية معينة نشأت مع الإنسان لمواكبة تطوره، أي أنها باتت أكثر ارتباطاً بعدة ملامح إيديولوجية، أهمها أن التقنية هي تطبيقاً عملياً للعلم، وهما مرتبطان بمشروع يهدف إلى السيطرة على الطبيعة وعلى الإنسان نفسه، وعلى الرغم من أن الإنسان يبدو هو مكتشف الآلة وسيدها، إلا أن الأخيرة سرعان ما عادت لتتحكم فيه ولكي تستعبده، والأكثر من هذا أن الإنسان هو ما يجعل نفسه عبداً لها، والآلة باعتبارها أداة إنما تستجيب لحاجات معينة لدى الإنسان، للسيطرة على الأشياء وتسخيرها، ما يعني أن العلم والتقنية وهما اللذان اكتسبا صبغة المشروع التحرري في بداية النهضة، قد تحولا في الوقت الحالي إلى أداتي استعباد وسيطرة هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فالتقنية التي جرى تسخيرها، في اتجاه استعباد الإنسان على وجه العموم، استخدمت أيضاً كأداة للسيطرة الداخلية والخارجية، وهي سيطرة على الأفراد، بهدف تسخيرهم واعتصارهم نحو مزيد من الخضوع والامتثال، وعلى حسب ما أورده نفرَ من المفكرين مثل «هربرت ماركوز» بوصفه مظاهر السيطرة والتكييف بالمجتمع التقني، الذي استطاع من خلال درجة العقلانية، التي وصل إليها أن تشذب ذلك البعد النافي للإنسان، وأن يحوله إلي كائناً أكثر امتثالاً، متقبلاً بُعداً واحداً فقط ألا وهو البُعد الامتثالي، نازعاً عنه أي بُعد آخر، سواءً كان إنكارياً أو نافياً، وتمثَّلت السيطرة الداخلية في تنمية الأدوات القادرة علي تكييف الفرد من النواحي الفكرية، عبر وسائل الإعلام أو وسائل صنع الرأي العام، وفي تطوير وتقوية أدوات المراقبة والتحكم والضبط بواسطة الإعلاميات، وبخلاف السيطرة الداخلية هناك السيطرة الخارجية، حيث إنه في ظل تقسيم العمل الدولي في الوقت الراهن، بات التقدم التقني أداة سيطرة على مصائر الشعوب والدول والقارات، لأن تلك الدول سخرت مواردها (طبيعية وبشرية واقتصادية) للاستحواذ على المنتجات التقنية، وظهر أن التفاوت التقني مصحوب بسيطرة سياسية واقتصادية للدول التقنية على الدول الأقل تقنية.
وهناك ملمحاً إيديولوجياً ثانياً للتقنية، يتعلّق بتصور التقنية نفسها، وعلى ذلك يوضح هايدجر قائلاً (إن التقنية لم تكن مجموع الأدوات والوسائل مهما وصلت درجة تعقدها، هي التي يقوم الإنسان باستعمالها، لكنها عبارة عن أفق فكري وطريقة انكشاف وكيفية في التفكير، ونمط للعلاقة مع الآخرين، بل ومع العالم أجمع، لأنها نمط في الوجود)، ما يعني أن التقنية من خلال ذلك المنظور هي أداتية خالصة، حولت كل شيء إلى أدوات ووسائل، وذلك هو البُعد الأداتي للتقنية مثل الأفق الذي يمكنه الإسهام قليلاً في القيام بتعديلات طفيفة في تحليل ظاهرة التشيوء، بعد أن جرت العادة على إرجاع التشيؤ إلى سيادة قانون السوق، وإلى تفشي العلاقات الرأسمالية، لكي تحول بشكل تلقائي القيم الاستعمالية إلى قيم أخرى تبادلية.
لكن إدخال عنصر التقنية كأداتية ونمط وجود في التحليل، أبرز دورها التشييئي في الحياة الاجتماعية، وبذلك المعنى يتضح أن التقنية تتولى تحويل الأشياء إلى أدوات، والعالم التقني هو العالم الذي تصبح فيه الأداة عبارة عن نموذج وامتثال، ما جعل التقنية تسهم في جعل تلك العلاقة بين الفرد والفرد وبين الفرد والأشياء علاقة أداتية ونفعية، فلم تعد الآلة استمراراً أو امتداداً لحواس الفرد وقدراته، لكن الفرد نفسه بات امتداداً للآلة لحد ما، بمعنى اكتساب الآلة لصفات وخصائص الإنسانية، في الوقت الذي اكتسب فيه الفرد خصائص الآلة وصفاتها، مثلما أكد هامبرماس في كتابه الشهير (التقنية والعلم كإيديولوجيا) بذكره (إن تمثُلنا التقني والعلمي، إنما هو تمثل إيديولوجي من حيث حلول وظيفة واحدة، ألا وهي وظيفة الاستخدام أو الاستعمال والمراقبة النفعية، محل كافة الوظائف الأخرى، كالتواصل والتقييم الأخلاقي والتأمل الميتافيزيقي والديني).
وفي الغرب خاصةً جاء ارتباط الثورة التقنية، بظهور الطبقات البرجوازية، وبأهدافها نحو تسخير الطبيعة والاستلاب على العالم، واكتسب العلم تدريجياً طابعاً تقنياً، وأخذت الثقافة بموازاة ذلك اكتساب طابعاً علمياً أكثر، وارتبطا معاً بالروح الكونية وبالنزعة الشمولية التي نشأ من خلالها، كونهما يعكسان البُعد الشمولي النوعي للفرد ويقومان معاً بنشره، لذا تدخل التقنية العلم من نواحي حملها ذلك البعد الكوني، في نزاع مع خصوصية الشعوب الثقافية، دون تمكن الشعوب من متابعة التحولات الفكرية الكبرى التي وقعت بالعالم الغربي، بدءًا من عصر النهضة الغربي وحتى الآن، وهي مسيرة طويلة تمثّلت في الانتقال من العالم المغلق إلي العالم اللا نهائي، والتقنية ليست آليات أو أدوات يجري استخدامها فقط، لكنها تحمل في طياتها قيماً ومنطقاً ورؤية للعالم يجب العمل على استيعابه، والتقنية تُحدث تغييراً إدراكيا بالمجالين الإدراكي والذهني معاً، كما صاحب دخول التقنية أيضاً، حدوث تغير في التصور والتنظيم التقليدي، فيما يخص المكان والزمان والعلاقات العائلية بين الأفراد، وحدوث تغير في مكانة المرأة ودورها، وفي مدلول السلطة السياسية، وطالما أدت التقنية إلى تقوية السلطة المركزية وتوحيد العملية التعليمية، وسيادة لغة واحدة.
وفي دراسة اجتماعية، أجريت بهدف رصد التحولات الاجتماعية العميقة الظاهرة خلال عقد كامل من الزمن، في إحدى قرى شمال غربي تركيا، وهي قرية واقعة على ضفاف البحر الأسود، بعد إنشاء أحد معامل صناعة الحديد بالمنطقة، ظهر أن التغيرات التي لحقت بالسكان التقليديين، كانت تغيرات عميقة خصَّت كل مستويات حياتهم المادية والمعنوية، ولتضاعف دخل الفرد لانتقاله من الزراعة إلى الصناعة، حدث تحول في عاداتهم الاستهلاكية سواءً بالسكن أو مظاهر الأمكنة، والتخلي عن الألبسة التقليدية وزوال المنتوجات التقليدية، وبشكل وأسلوب تزيين المنازل في الداخل والخارج، تبعه انخفاض نسبة الأمية، وتغييراً كبيراً بات ملموساً بعلاقة الرجل بالمرأة، وظهرت ميول سياسية وتنظيمات سياسية، نفس الأمر حدث بكل مجتمع غزته التقنية ولكن بتفاوت، بخروج المجتمعات من شكلها المرتب وتمركزها على الماضي، لتصب في بوتقة الحداثة، وتجعلها ترتطم بالمستقبل بعنف واضح، كنتاج طبيعي لميل التقنية إلى إلغاء الخصوصيات وطمس الهويات!