محمد سليمان العنقري
يروى أن النعمان بن امرؤ الفبس اللخمي الذي كان ملكاً على الحيرة أراد أن يبني قصراً يتفاخر به ويكون أعجوبة زمانه فاستعان بمهندس رومي اسمه سنمار والذي أبدع في بناء القصر الذي سمي «قصر الخورنق» وعندما انتهى من بنائه وجاء النعمان لرؤيتة وكان معه سنمار يشرح له عن هذه التحفة المعمارية ذكر له بحسب الروايات أنه جعل هذا القصر يستند على حجر واحد إذا تم سحبه انهار القصر, فسأله النعمان هل يعرف بهذا الأمر أحد غيرك فقال لا فأمر برميه من أعلى القصر وقيل بعدها المثل السهير «جزاء سنمار», فرغم عظمة بناء قصر الخورنق لكنه كان يقف على حجر واحد وقد يكون هذا الأمر ليس حكراً على بناء بل إن شركات انهارت لأنها استندت على شخص لعب دوراً بقيادتها ونجاحها وعند رحيله انهارت, أو منتج تفوقت به حتى ظهر المنافس له ففقدت بريقها وأفلست, أو دول بالغت في تعظيم قوتها والتوسع بنفوذها عالمياً حتى بات مرهقاً لها وأصبحت تنظر في أوراق قوتها وتبالغ بالاعتماد على إحداها حتى تحولت هذه الورقة إلى مبعث قلق يهدد كيانها ووحدتها أو استقرارها وفي زمننا الحالي لا يشبه حجر قصر الخورنق إلا دولار أميركا الذي حولته ليكون سلاحها الأقوى لبقاء هيمنتها الدولية.
فالدولار منذ اتفاقية بريتون وودز عام 1944 التي تبنت فيها الدول المشاركة الدولار كعملة احتياط عالمية وهو يحافظ على هذه المكانة ليصبح سلاحاً أميريكاً يمكنها من التأثير على الاقتصاد العالمي, وأعطاها القوة للتحكم بالنظام المالي الدولي فهو يمثل 59 بالمائة من الاحتياطي النقدي للدول ويقارب دوره 60 بالمائة في حجم التبادل التجاري الدولي وتستطيع أميركا بسياسات نقدية من خلال التوجه للدولار القوي عندما تقوم برفع الفائدة أن ترهق أغلب الدول اقتصادياً إذ يؤثر ذلك على تكلفة القروض ويوجه الودائع بالعالم نحو الدولار الذي يتداول منه عالمياً حوالي 12 تريليون دولار, أما عند خفض الفائدة والتوجه للدولار الضعيف فإن التضخم يرتفع عالمياً كما يؤثر كثيراً على تنافسية الدول التي لا ترتبط عملتها بالدولار بالتصدير أو بقدرة منتجاتها على الصمود حتى بسوقها المحلي أمام المنتج الأمريكي أو منتجات من يرتبط بالدولار بسعر صرف ثابت, كما أن تراجع العملة الأمريكية مع زيادة طباعتها وفك ارتباطها بالذهب خفض من قيمتها بشكل كبير, فدولار اليوم يعادل قرابة 4 سنتات من دولار 1935م.
فالسياسات التي اتبعتها أميركا لتنشيط وتنمية اقتصادها كان لها دور أيضاً بتصدير إشكالية خفض قوة الدولار على المدى الطويل على العالم وقد يرى البعض أن ذلك حق لأميركا وشأن داخلي فهي تبحث عن مصلحتها لكن ما يضعف هذا الرأي أن الدولار ليس عملة محلية بل عالمية, وأميركا أكبر مستفيد من ذلك والعالم وثق بها وبعملتها ويدعمها من خلال اعتمادها كعملة احتياط رئيسية للدول وكذلك يستخدمها بالتجارة الدولية بنسب عالية فقوة الطلب على الدولار الذي أصبح أشبه بسلعة تبيعها أميركا للعالم استفادت من هذا الواقع كثيراً وانعكس بالقدرة الهائلة على توفير السيولة لاقتصادها وجذب الاستثمارات لينمو بنسب عالية فالعالم يحمي الدولار نيابة عنها نتيجة دوره بالاقتصاد العالمي.
لكن بالمقابل فإنه ومنذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي هزت الثقة بالنظام المالي العالمي الذي تقوده أميركا والذي انعكس على الدولار وفتح النقاش حول ضرورة بقائه عملة احتياط عالمية من عدمها، فقد ضخت أميركا حوالي 8 تريليونات دولار على سنوات أعقبت تلك الأزمة لتجاوز تداعياتها وبعد أن جاءت جائحة كورونا بأزمة اقتصادية لا مثيل لها زادت أميركا من ضخها للمال الرخيص التكلفة بكميات هائلة مما أوصل دينها السيادي إلى 31 تريليون دولار إذ ارتفع منذ العام 2008 حتى تاريخنا الحالي أي خلال 14 عاماً بحوالي 200 بالمائة ووصل لما يعادل 130 بالمائة من ناتجها القومي في الوقت الذي كان عند 59 بالمائة قبل نشوب الأزمة المالية العالمية وباتت أميركا تبحث فقط عن سداد خدمة الدين لا أصله لأنها غير قادرة على ذلك وهو ما يعني أن الدين السيادي لم يعد حافز قوة ودعم للنمو الاقتصادي بل مرضاً مزمناً لا يمكن لها التخلص منه إلا بعمل جراحي سيؤدي بالضرورة لانهيار اقتصادها وما لذلك من أثر كبير على العالم ولذلك فهو أمر مستبعد أن تقوم بإصلاحات اقتصادية عميقة لخفض ديونها ومع تزايد الإنفاق الأمريكي بالميزانية الفيدرالية أصبح الحديث عن الهاوية المالية يتكرر كل عام تقريباً, فهم غير قادرين على خفض العجز وإنهاء بعض الإعفاءات الضريبية نظراً لآثاره بالنمو الاقتصادي سلباً ويلجأون غالباً لرفع سقف الدين للحكومة وأصبح كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري يستخدمان هذه الورقة حسب المصالح الانتخابية, لكن أخطر ما يواجه الدولار هو ظهور أقطاب جديدة بالعالم تريد الابتعاد عن الدولار وتقليل الاعتماد عليه تدريجياً, وبالحقيقة فالدولار قبل عشرين عاماً كان يمثل قرابة 70 بالمائة من الاحتياطي العالمي مما يعني أنه تراجع بنسب كبيرة وانعكس ذلك بدوره بالتجارة الدولية أيضاً بالتراجع ومع حالة الصدام التي تقوم بها أميركا مع الصين ثاني اقتصاد عالمي ومع روسيا حالياً بعد شن الأخيرة حرباً على أوكرانيا لأسباب تتعلق بحماية أمنها القومي كما تدعي فإن الاصوات المطالبة بخفض الاعتماد على الدولار من تلك الدول وغيرها بدأت ترتفع وأخذت إجراءات عمليةً من خلال إيجاد نظام مدفوعات عالمي جديد منافس لسويفت وايضاً التغير بالتبادل التحاري بالعملات المحلية تحديداً ما أقر بين روسيا والصين وايضاً الطلب من أوروبا سداد قيمة النفط والغاز الروسي بالروبل إضافة إلى أن قيام أميكا بفرض عقوبات على موسكو بتجميد أرصدتها لديها سيضرب الثقة من كل العالم بوضع استثمارات بالسوق الأميريكي فلا أحد يضمن أن لا تقوم بنفس الخطوات معه غذا حدث أي خلاف بينها وبين أي دولة, ويضاف لذلك بروز أهمية العملات الرقمية حيث تتجه الدول لإصدار عملاتها رقمياً حيث تبحث التوجه لذلك حوالي مائة دولة ترغب بالتحول تدريجياً بعملاتها لتكون رقمية مما سيغير من آليات التبادل التحاري وطرق السداد فوجود يوان وروبل ويورو وين وغيرها من العملات الرقمية سيخفض الاعتماد على الدولار كثيراً.
الهيمنة الأمريكية على المحك فصحيح أنها تمتلك فائض قوة ضخم عسكرياً واقتصادياً وسياسياً لكن بالتأكيد ليس كما كانت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي أو بعد ظهور قوى اقتصادية جديدة, إلا أن مكمن القوة لديها أصبح يرتكز على الدولار, وهي مستعدة لخوض الحروب بمختلف أنواعها لمنع ضعف أهمية الدولار بل إن بعض المحللين في الغرب اعتبروا أن احتلالها للعراق سببه توجه الحكومة العراقية وقتها لبيع النفط بعملات غير الدولار وحتى لو كان ذلك ليس سبباً رئيسياً أو غير صحيح لكن بكل تأكيد أن التحول عن الدولار سيعني نهاية الاقتصاد الأمريكي بهيمنته الحالية, لأن ذلك سيعيد النظر بالإقبال على الدولار فهو لن يكون ملاذاً آمناً للمستثمرين وسيدخلها في دوامة جدولة ديونها أو التخلف عن السداد ففقدانها لتصنيفها الائتماني الممتاز قبل نحو ثماني سنوات ليس إلا إشارة إلى أن الدولار أصابه بعض الوهن, فهل سيستمر ويتزايد أم أنه سيكون حجر سنمار الذي لن يُقتل كما حدث قبل آلاف السنين بل قد يسحب أحدهم الحجر ويسقط الاقتصاد الأمريكي أما متى يكون ذلك فمن المؤكد أنه ليس بعهد قريب لكن ليس ببعيد أيضاً إذا ما تنامى الدين السيادي لمستويات يستحيل معها سداد حتى الفوائد المترتبة عليه.