حسن اليمني
من كان يصدق أن الولايات المتحدة الأمريكية تلك الدولة العظمى والأولى في العالم التي حين تغضب يغضب العالم كله، وحين تتحدث عن النظام العالمي وعن الشرعية الدولية وعن العالم المتحضر الكل ينساق ويردد كالصدى ما تقوله أمريكا، فما الذي حدث وجعل الموقف الأمريكي معزولاً تماماً عن العالم، بما في ذلك أقرب الحلفاء؟
من تابع الأحداث السياسية في الأيام الأخيرة بعد قرار منظمة أوبك بلس بتخفيض الإنتاج مليوني برميل نفط يومياً اعتباراً من الأول من نوفمبر، ورد الفعل الأمريكي الذي ربما كان متوقعاً نتيجة مصالح حزبية داخلية لكن التوقع لم يكن إلى هذا الحد من الاندفاع الهجومي غير المنضبط وتخصيص جام الغضب على دولة بذاتها من بين أعضاء تلك المنظمة، لقد جرى الأمر بطريقة مريبة ومثيرة لعلو صوت الاستفزاز بشكل أعاد الأذهان إلى صورة «الكاو بوي» في تكساس، ولم يكن الأمر حين ظهرت ادعاءات وإذاعة شعارات ومزايدات بين أعضاء في الكونغرس الأمريكي وخاصة من الحزب الديمقراطي بطريقة مستفزة تمارس الكِبَر والغرور ضد دولة ليست صديقة فقط بل حليفة، والجميل هذه المرة ولعله تسرب بخفية للذهن الأمريكي حين لم تجد صدى يدعم ويؤيد من دول اعتادت الرقص على عزف موسيقى سياساتها غير المنطقية أحياناً، ولا حتى دولة واحدة حتى تلمح ولو بشكل منافق دعم هذا الموقف الأمريكي، أمريكا فقط وجدت نفسها وحدها وهي ترفع صوتها وترخي مسامعها علّ تسمع صدى يدعم ويسند موقفها لكن دون جدوى.
لا بل إن الأمر حدث بشكل معاكس حين وقف العالم كله متحداً بين رافض ومعلن ذلك صراحة وبأعلى صوت، وبين لائم ومعاتب وناصح للتعقل، في حين نأى واكتفى البعض بالصمت المطبق كحال المملكة المتحدة البريطانية وكندا وهما أقرب الحلفاء للولايات المتحدة الأمريكية بذات الدرجة فعلاً التي تجمع العربية السعودية في عمق صداقتها مع أمريكا.
حتى إن استبعدنا تلك الدول التي تقف في العادة وبحكم تعارض السياسة والاتجاه أو التي لا ترتهن للقرار الأمريكي واختبرنا فقط مواقف دول أوروبا الصديقة والحليفة لأمريكا أو حلف الناتو نجد رفضاً للموقف الأمريكي وتجنب الانخراط معه، بل أعلن كثير منهم صراحةً رفض رد الفعل الأمريكي تجاه قرار أوبك بلس الأخير بالصمت مثل بريطانيا وكندا وأستراليا وألمانيا وإيطاليا وغيرهم، أو بمحاولات التوسط لتهدئة الغضب الأمريكي بالتعقل والتراجع عن تسخين الجبهة الإعلامية غير المنطقي مثل فرنسا، بينما ظهر الموقف التركي عضو حلف الناتو قوياً ومتميّزاً بوقعه على واشنطن، وهذا كله يشير إلى عزلة في الموقف الأمريكي لم يسبق أن حدث من قبل.
جميع دول أوبك أعلنت تضامنها مع الرياض موضحة أن قرار أوبك بلس ليس حكراً على السعودية وحدها، وزادت في عملية التفنيد أن القرار تم في إطار اقتصادي بحت لا علاقة له بسياسة أو أحداث عسكرية جارية، الدول العربية والخليجية هي الأخرى أجمعت على دعم وإسناد المملكة العربية السعودية في مواجهة حملات الإعلام الأمريكي، وأعلنت جمهورية مصر العربية أنها تراقب عن كثب، الحدث الأبرز كان في ظهور شاويش أوغلو وزير الخارجية التركي بتصريح قوي ومهم جداً جاء فيه مصطلح سياسي جديد يظهر لأول مرة في العناوين السياسية يطال الولايات المتحدة الأمريكية، حين أعلن رفض تركيا لسياسة (تنمر القوة) الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في كل مرة حتى وصل اليوم لأقرب الأصدقاء والحلفاء لأمريكا ذاتها وهي العربية السعودية، مصطلح جديد مختلف يحمل في مخازنه أبعاداً استدعت الرئيس الأمريكي بأن يطلب إعادة ترجمته وتدقيق لغته والتأكد من فحواه وقراءة مغزاه وأبعاده، باعتباره توصيفاً صادماً لعقلية المعاقبة التي أصبحت تتجاوز الدول المناكفة لسياساتها وتصل اليوم إلى الأصدقاء والحلفاء تماماً كما يفعل بعض المعلمين مع تلاميذهم إن أبدوا رأياً يتجاوز توقع المعلم، يستحسن الآن بمناسبة الإشارة لعقلية العقوبات التي تمارسها الولايات المتحدة بشكل أصبح مبالغاً فيه أن نذكر أن العقوبات الأمريكية التي اتخذت ضد روسيا تجاوزت اليوم عشرة آلاف عقوبة، تصور ذلك لتعرف مدى الانجراف الهائل في التعامل مع الآخرين، إنه مؤشر منطقي للإسراف في استخدام العقوبات بشكل مبالغ فيه الأمر الذي أصبح فيه مستحقاً للوصف «تنمر القوة» وهو فعلاً وصف مناسب جداً لحال هذا السعار غير المبرر، هو فعلاً أصبح بمثابة غطرسة قوة فوق المعقول والذي يأخذ الولايات المتحدة الأمريكية سيراً على قدميها لتصبح دولة معزولة.
إن فعل التنمر جزء أصيل من الفعل الإرهابي بالمعنى للكلمة، وهذا بهذا يمكن أن نقول إن مصطلح «تنمر» موافق تماماً لمصطلح «إرهاب» وحين يظهر كوصف لسياسة العقوبات فكأن مطلق الوصف يضع هذا في مقابل هذا، وإذا كانت مواجهة الإرهاب في أدنى درجات العقلية العقابية بالعزل والنبذ فهو يعني أيضاً منطقية مواجهة تنمر القوة بالعزل والنبذ كحق متساوٍ وعادل، وهو ما بدا فعلاً بطريقة آلية بشكل شبه جماعي من قبل دول العالم دون اتفاق، وعمّقه فعلياً تململ الحلفاء الأقرب والأكثر التصاقاً ومسارعة في الاستجابة لرغبات الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لكن ليس الآن، هذا ما لاحظه أغلب المتابعين والمراقبين في الموقف الأمريكي تجاه قرار أوبك بلس الأخير، فقد بلغ ذروة الاستهجان ولم يعد أحد قادراً على تسويقه، بهذا المنظار تبدو الولايات المتحدة الأمريكية على خلاف مع دول أوروبا بشأن عقوباتها على روسيا وخاصة في مجال الطاقة، وهي على خلاف مع تركيا والسعودية ومصر والإمارات والجزائر والسودان والباكستان كمثال لا حصر، وعالمياً هي تحارب روسيا بالوطن والإنسان الأوكراني مستخدمة إياه كحشو رصاص، وتايوان أيضاً مرشحة لذات الدور ضد الصين خلال الأشهر القادمة، ويخشى على باكستان من مخطط قد تظهر ملامحه في وقت قريب، خاصة بعد أن نالت من بايدن ذاته وصف أخطر دولة نووية في العالم وكأنه يمهد لأمر ما، وإن لم تكن مثل هذه الأفعال كافية لاستحقاق وصف التنمر وهي ليست إلا غيض من فيض فما هو التنمر إذن؟
إن جمال وقوة الحضارة المادية للولايات المتحدة الأمريكية عامل جذب لكثير من دول وشعوب العالم، وخاصة دول الخليج العربي التي انسجمت وتناسقت مع المسار الأمريكي، حتى مع تبلّد الروح الحضارية تجاه فلسطين مثلاً، لكن ليس إلى حد تحمل التنمر وإسراف العقوبات ووصولها لأقرب الأصدقاء والحلفاء، بحجّة أن ممارسة القرار السيادي ومراعاة المصالح الاقتصادية لأي دولة لا يجوز أن يقدم على مصالح حزب أمريكي، هذا كثير وأمر يتجاوز العلاقات الطبيعية, إن ظهور هذا الوصف من دولة صديقة وحليفة لأمريكا مثل تركيا يستدعي العقلاء في الولايات المتحدة الأمريكية لمراجعة ذاتية تعطي الأصدقاء والحلفاء حق استقلال الإرادة والسيادة وحماية المصالح بدلاً من محاولة استلابها والهيمنة عليها.
أخيراً فإن العقول التي تفكر ليست صناعة أمريكية يمكن منع تصديرها، إنها ببساطة موجودة في جماجم البشر منذ الولادة، وإن كانت سياسات بعض الدول حين تكون أكثر استقلالاً وبحثاً عن مستقبل أكثر أماناً لمواطنيها يعدّ بمثابة خطر داهم على مصالح سيدة العالم فقد يظهر من يقول إن تسخين الولايات المتحدة الأمريكية لجبهة الحرب في أوكرانيا بالسلاح والتأجيج إنما يدخل ضمن إدخال العالم القديم حسب المنظور الأمريكي في حروب مدمرة بعيداً عن قارة أمريكا لنشر الفوضى وتعطيل تطور القوى الأخرى ليتم فيما بعد إعادة ترتيب العالم، قد يكون هذا فكراً مجنوناً لكنه يصبح معقولاً حين يقابل فكراً مجنوناً آخر.