سهوب بغدادي
تختلف التعريفات في معنى النجومية، فمفهوم النجومية في الستينيات يختلف عن مفهوم النجومية في التسعينيات، فيما تبدلت المفاهيم أو انقلبت في يومنا الحالي، فالشخص قد تسلط عليه الأضواء في يوم وليلة، بل في لحظة وهو في عقر داره، في ظل الثورة الرقمية وآثار العولمة الممتدة إلى جميع مواطن الحياة، لذا رأينا وظائف مستحدثة لا تخطر على البال، «فاشينيسنا» على سبيل المثال، من الذي يفكر أنه سيقوم بالدراسة ويتخرج من المدرسة ويمضي الليالي الطويلة في المذاكرة لينتقل بعدها إلى عالم الموضة واللبس وعرضه أو التنقل من مكان لآخر بهدف التصوير والإعلان للمكان، تركيبة عجيبة، فالفاشينيستا مُعلنة، ولبيسة، وخبيرة مكياج، وتمتد القائمة، إنها ليست دعوى للتهكم أو التقليل من شخص أو مهنة، بل هي تساؤلات من فتاة قادمة من جيل مختلف بالكلية، حيث كان حلمي أن أصبح طبيبة أو رسامة، في حين كانت أصعب أحلامي وأمنياتي «المستحيلة» أن أصبح إعلامية, وأعتقد أن حلمي المستحيل تحقق، فما العمل عندما تصل مبكرًا؟ هل تتوقف؟ أم تجعل بريق الوصول يعميك عن تفاصيل الحلم؟ بالنسبة لي، الإعلام لم يكن حلمًا بل مجرد وسيلة لأحلام أكبر، من أهمها الرسالة السامية التي أريد أن أخلفها بعد رحيلي، ألا وهي «خدمة المخلوقات، وتحقيق التطور والتحسين المستمر بما يخدم ديني ووطني» فكل عمل أو شغف أو هواية تداخلت في طريقي أطبق عليها معايير رسالتي السامية، فإن اجتازتها قمت باصطحابها معي في رحلتي، الأهم في أن تجتاز الأمور اليومية والأشخاص مفاهيمنا ومبادئنا لا العكس.
وفي خضم الحديث عن الاجتياز، قمت بالتقديم خلال الأسبوع المنصرم على تجارب أداء أكاديمية إم بي سي، حيث لا تستهويني فكرة الشهرة أو النجومية بحد ذاتها، لكن رحلة تجارب الأداء لطالما أثارت فضولي، ما الذي يمر به المتسابق؟ وما الشعور الذي ينتاب الإنسان عندما يقف أمام لجنة تقييم؟ وهل الانتظار شاق أو ممل أو مخيف؟ كل هذه التساؤلات وأكثر دفعتني لدخول التجربة دون تعليق أهداف أو آمال بالترشح، مبدئيًا حصلت على دعوة لحضور تجارب الأداء في البوليفارد يوم الخميس من الساعة 1 مساءً إلى الساعة 7 مساءً، وتلك المنطقة «أستصعب» الذهاب لها نظرًا لازدحامها ليلاً ونهارًا، فكانت فكرة إيجاد موقف للسيارة تداهم تفكيري، بينما لم أفكر مليًّا في الموهبة التي سأقوم بتقديمها، أو كيف أو مدتها، وتلك من عجائب شخصيتي، بشكل مبدئي قررت أن أعزف على البيانو، إلا أنهم لا يقومون بتوفير الآلات الموسيقية، فيتحتم على المتسابق أن يجلب ما يحتاجه، ولكن الإشكالية في أن البيانو الذي أمتلكه كبير جدًّا ويتطلب إعادة تركيب ونقل «بشاحنة» لمقر انعقاد المناسبة، من هنا راودتني نفسي أن أعتذر عن المسابقة، ولكن سرعان ما روضت أفكاري السلبية، «وهل هي الموهبة الوحيدة التي أمتلكها؟» كلا، إذن عليّ الذهاب، لأختبر موهبتي الأفضل من العزف وتكمن في «فن الإقناع» فاعتزمت أن أقنع أحد المشتركين فور وصولي بأن يعيرني آلته لأعزف عليها، وأتى اليوم المنتظر، ذهبت من الساعة الرابعة بعد انتهائي من الدوام، لأجد مواقفَ خُصِّصَتْ للمتسابقين ضمن فئة كبار الشخصيات، وكان ذلك أمرًا جميلًا، جعلني أتنفس الصعداء للمرة الأولى في البوليفارد، دخلت المكان المخصص فوجدت أحد الأصدقاء الإعلامي الأستاذ محمد الزهراني، فأرشدني خلال التواجد في المكان، وخلال تسجيل بياناتي لمحت تلك الآلة المطلوبة لدى شاب في مقتبل العمر، فتوجهت إليه وبدأت الحديث «كيف حالك، هل أستطيع أن أستخدم البيانو؟» فكر مليًّا وبدت علامات الحيرة تارةً وملامح الرفض تارةً أخرى، فحاولت مرارًا إلا أنه فاجأني بالقول إنه فائز ومتأهل للمرحلة القادمة وكان حضوره اليوم في الرياض مجرد غلطة في التنسيق وفهمه للأمور، حيث أتى من الدمام ظنًا منه أنها تجارب أداء المرحلة الثانية، إلا أنها كانت المرحلة الأولى في مدينة الرياض، ثم قال سأقوم بالذهاب للمطار لكيلا أفوت رحلتي، فقلت له بما أنك هنا استمتع بالمكان والوقت اذهب في جولة فالبوليفارد وأنت «خفيف الحركة دون البيانو» وعندما تنتهي سأكون انتهيت من أدائي، فرفض، عندها تركته وذهبت لأجد شيئًا آكله لأنني شعرت بالغيظ من الشاب، إلا أنه لطيف وبرئ، علمت أن غضبي بسبب الجوع، -نعم قد يحل الطعام المشاكل أحيانًا- أكلت ومن ثم صليت المغرب وعدت مجددًا لمقر تجارب الأداء الكائن في «السينما» عندما اقتربت إلى البوابة لمحت مجموعة من الشباب «فرقة موسيقية» معهم آلات متنوعة وكان من بينها ما ظننته آلتي، فباغتني أحدهم «أختي، هل لديك سؤال أرى ذلك» فقلت: نعم ولكن ليس لك، بل لصديقك، وكان صديقه قليل الكلام، فتوجست خيفة من النتائج، وبدأت في تلك الأسطوانة المشروخة فقال، أنا سأقوم بالتجربة وأرحل على الفور، فقلت يا أخي أنت لم تسجل اسمك بعد، وأنا هنا من الظهر-بالغت قليلاً وأعتذر- فقال يا الله ما هذا؟ وبدت عليه ملامح الخيبة، فقال أريد أن أترك المكان، ثم قلت أرجوك لا تتخلى عن أصدقائك فهم فرقة موسيقية وبحاجته، وتستطيع الدخول معي قبل دورك لمعرفة التجربة وتتعود على الجو العام، بعد ذلك أخبرته بأن يذهب ليأكل وأن يترك الآلة معي وسأقوم بحراستها، فضحك ووافق, بالطبع الأستاذ الفنان عبدالعزيز المولد هو نجم قصتي، ففعل بسيط غير مجرى قصتي بالكامل، كما كان دعم وتشجيع أعضاء فريقه لي أحمد وريان كفيلًا بأن أخوض التجربة بنجاح، وفور ما حصلت على البيانو حلّ موعد تقديمي، فدخلت المسرح وكان الحكام الأستاذ عادل بارباع، والملحن الصلال، وصانع المحتوى محمد الموسى، والمخرجة والكاتبة هناء العمير، والممثلة أضوى فهد، لم أنبس ببنت شفة، وباشرت العزف، مقطوعتان للموسيقار القديم عمر خيرت، ولَقِيَتْ مقطوعة قضية العم أحمد تفاعلاً بالتأكيد وتصفيقًا، ذلك ما كنت أطمح له في مخيلتي، ومن ثم انتهيت وألقيت كلمة بسيطة, «شكرًا لكم، أنا سهوب بغدادي، والعزف ليس موهبتي بل هو هواية تعلمتها خلال أيام أزمة كورونا، إن موهبتي تتمثل في اللغات الأجنبية والأعمال التطوعية، والأهم من ذلك الكتابة، فهذه التجربة موضوع لمقالي القادم بإذن الله وترجلت من خشبة المسرح» ومع انتهاء التجربة وجدت الإجابة على أسئلتي الأولى، فلم أشعر بالتوتر أمام اللجنة، واستمتعت خلال العزف والحديث أمامهم، وكان شعور المتسابقين مماثلًا لشعوري، حيث ذكرت لي البتول أم لطفلتين ريماس وجوري، أن طفلتيها بارعتان في الغناء والتمثيل، وتقومان بالغناء على الدوام بسبب أو دون سبب،كلبساطة عمل ما تحب يقودك إلى التميز والنجاح، والنتائج لن تشكل هاجسًا، فكل شخص منا خلال التجارب وجد في موهبته ملجأً من تحديات الحياة، أو هوية خاصة به، فهل ستؤثر النتيجة فعلًا؟ خرجت من التجربة بمعرفة أكبر وثقة بقدراتي، وأصدقاء جدد، فالصداقة تتطلب المواقف، وما وجدته من عبدالعزيز والمتواجدين يجسد أبهى معالم الصداقة، أما الشاب البهي الذي رفض إعارتي الآلة أتى إليّ مسرعًا عند بوابة الخروج وسألني بلهفة، كيف كان أداؤك؟ فقلت له من أنت؟ فلقد نسيت شكله وأيقنت أنني كنت جائعة ومتوترة، قلت له الحمد لله وقمت بتعريفه على أصدقائي المتواجدين ومنهم الأستاذ محمود الملقب بمامو صاحب فرقة انتيكا باند، ثم تعمدت إغاظته قليلًا، إلا أنني ممتنة لرفضه في قرارة نفسي لأنني تأكدت أن الاقتناع وحب الناس أحد مواطن قوتي ويجب علي الالتفات لها وتطويرها، كما يشكل رفض الشاب رمزية للعقبات التي نواجهها في رحلتها للنجومية، فكلنا نجم وبطل قصته التي يصنعها، كن أنت.