سعد بن دخيل الدخيل
تعد الحرب العالمية الثانية من أكبر الصراعات الدامية في العالم. كانت حرب عالمية جمعت القوى العظمى وبقية دول العالم في هيئة معسكرين كبيرين متعارضين الأول دول المحور والثاني دول الحلفاء وكان السبب المباشر تلك الحرب هو قيام ألمانيا بغزو بولندا في 1 سبتمبر 1939م، إضافةً إلى إعلان بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا في 3 سبتمبر 1939م، واستمرت هذه الحرب العالمية لمدة ست سنوات من 1939 إلى 1945 .
وفي معمعة الحرب حرص الملك عبد العزيز على حماية دولته، كيف لا والظروف الدولية والإقليمية التي تزامنت مع تكوين الدولة السعودية كانت في غاية التعقيد والاضطراب، لكن الملك عبدالعزيز السياسي المحنك والقائد الجبار تفاعل مع هذه الظروف وتعامل معها بدرجة كبيرة من الذكاء ليحقق أقصى استفادة منها وتقليل آثارها السلبية على ما يقوم به من جهود للتنمية في بلاده وبنائها حضارياً واستغلال مواردها. وقد استطاعت هذه القوة السياسية بزعامته الوقوف في وجه تلك الظروف، وكنا قد أشرنا في أكثر من مقال أنه بعد استرداد الأحساء وظهور الملك عبدالعزيز على مسرح الأحداث، لفت ذلك أنظار العالم شرقاً وغرباً وخاصة من السياسيين والدبلوماسيين الأوربيين الرسميين وغير الرسميين، وبدأت اتصالاتهم ووصول وفودهم الرسمية والشخصيات والدعوات بعقد المؤتمرات، كل هذه المساعي محاولات منهم لإقامة علاقات دبلوماسية مع هذه القادم من وسط الجزيرة العربية، وبعد أن أعلن الملك عبدالعزيز عن دولته المملكة العربية السعودية في 1 من الميزان الموافق 23 من سبتمبر 1932م، أصبحت هذه الدولة قوة إقليمية ومؤثراً عالمياً على خارطة دول العالم، وكان الملك عبد العزيز -رحمه الله - صاحب مواقف سياسية ثابتة، بل هو بمقاييس التاريخ سجل طويل مفعم بالأخلاق، والمبادئ والثوابت، وكان ملاذاً آمناً لأحرار العرب والمسلمين، وحين دقت الحرب العالمية الثانية طبولها كان للملك رأي سديد وموقف واضح على الرغم من إغراءات الدول سواء من الحلفاء أو من دول المحور. يقول أمين سعيد في الجزء الثاني من كتابه تاريخ الدولة السعودية (صفحة 399) بشأن موقف الملك عبدالعزيز وحكومته السعودة في الحرب العظمى الثانية: «جاء رسل إيطاليا إلى جدة يحاولون إقناع الملك بالانضمام إلى ألمانيا، والدخول في الحرب أسوة بدولتهم، فلم يلقوا سوى صد ورفض، وتناقلت الألسن يومئذ أن السيد فؤاد حمزة، وكان يتولى منصب وكالة وزارة الخارجية السعودية وكان على صلة وثيقة بروما، حمل سنة 1940 كتاباً خاصاً من «هتلر» زعيم ألمانيا إلى الملك يقترح فيه عليه الانضمام إلى ألمانيا في حربها مع دول الاستعمار ويعده بتاج الدولة العربية الكبرى، فلم يؤثر ذلك فيه ولم يحمله على تعديل خطته وسياسته، فزاد تمسكاً بالحياد وإصراره عليه، اعتقاداً منه أن مصلحة بلاده توحي به وتستوجبه»، ولذا يقول خير الدين الزركلي في الجزء الثالث من كتابه شبه الجزيرالعربية في عهد الملك عبدالعزيز (صفحة 961): «وقف الملك عبدالعزيز من الحرب العالمية الثانية 1358هـ (1939م) موقفه من الحرب العالمية الأولى على تباين ما كان عليه وضع بلاده السياسي والجغرافي، في الأولى والثانية. لزم الحياد ليجنب شعبه غوائل حرب لا مصلحة له في التعرض لها، وضحى في سبيل ذلك بفوائد مادية مما سمي «الإعارة والتأجير» وكانت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، تغدق على حلفائها، بغير حساب «، كما لم تتأثر العلاقات السعودية - البريطانية بتطورات الحرب العالمية الثانية، حيث اتخذت المملكة العربية السعودية موقف الحياد وتعاملت مع بريطانيا بما يخدم المصالح السعودية وفقاً للأطر السياسية المعروفة (جريدة الشرق الأوسط، د. فهد عبد الله السماري: الجذور التاريخية للعلاقات السعودية البريطانية، لخميس 27 شوال/ 1428هـ/ 8 نوفمبر 2007م، ع 10572، ص4).ويقول أحمد عسه في كتابه: معجزة فوق الرمال عن حياد الملك المؤسس: «فعندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية حرص الملك عبد العزيز على تجنب بلاده ويلات الحرب، فالتزمت دولته جانب الحياد، حتى لا يفسح المجال أمام الدول الحليفة الديمقراطية للاستفادة من بلاده وموقعها، وآثر أن يرقب تطورات الأحداث، وأن يجنب شعبه نتائجها ووقوعها فريسة للدعايات المتناقضة التي كان المعسكران المتحاربان يسعيان إلى نشرها بمختلف الوسائل»، ويقول كذلك الدكتور لزلي مكلوكلن فيما يخص حياد الملك عبدالعزيز: «الملك كان واعياً تماماً لإمكانية اتساع رقعة الحرب، لذلك كان أمام أصعب قرار في حياته السياسية، من ناحية اختيار الحياد أو الانضمام إلى طرف من الأطراف»، كما يقول خير الدين الزركلي: «وعلى الرغم من كثرة عوامل الإغراء والتحذير، من الفريقين المتحاربين، ورجحان كفة أحدهما - الألمان وحلفائهم - على الثاني مدة طويلة اقتربت فيها جيوش المحور من أبواب مصر، وهبّت لها عاصفة في العراق، وعند الملك عبدالعزيز من ينابيع النفط - وهو مصدر الثروة الأكبر المأمول يومئذ في مملكته- ما يغريه بمصانعه الكفة الراجحة، فقد وقف ينظر إلى الميدان نظرة المترقب المتأني»، ويضيف الزركلي عن المؤسس - رحمه الله: «كان لا بد له من تحكيم العقل، والأخذ بالحزم، قبل السير وراء العاطفة. وهكذا فعل، فلم يتسرع حين انساقت الشعوب إلى خوض المعمعة، طمعاً أو هلعاً؛ وتوقف غير منحاز إلى هذا أو ذاك؛ كشأنه في الحرب العامة الأولى بين الإنكلزوالألمان، وانصرف إلى تسهيل «الحج» للمسلمين، وتأمين سبله، وإلى معالجة وسائل الإصلاح في مملكته الناشئة، وحمد له الفريقان موقفه».، بل إن الملك المؤسس حين لجأ إلى بلاده 827 جندياً من المحور منهم 27 ألمانياً و800 إيطالياً، حين قذف بهم البحر الأحمر إلى الشواطئ السعودية، أمر بأن يعاملوا معاملة الضيوف فأخليت لهم جزيرة أبي سعد - بقرب جدة - وجيئوا بالطعام، والشراب، والكساء، والغطاء؛ إلى أن فتح طريق عودتهم إلى بلادهم بعد انتهاء الحرب، فعادوا يلهجون بالثناء على الملك عبدالعزيز ودولته السعودية، كما حامت شكوك حول المفوضية الإيطالية (من دول المحور) فقيل أنها تجاوزت ما أوفدت من أجله، فأمر بإكرام وزيرها، والتلطف في إشعاره بأن بلاد العرب السعودية لن تكون مجالاً لدعاية أو منبعاً لأخبار؛ فاستأذن الوزير الإيطالي، وانصرف إلى بلاده مثقلاً بالهدايا. وحقيقة أن الملك عبد العزيز لم يقدم أي عون عسكري للحلفاء، بل أنه قام بالمحافظة على الاستقرار في العالم العربي في وقت كان من الممكن أن تتسع حالة الاضطراب أو الميول الجامحة إلى المحور (د. حسين إبراهيم هاشم العطار: العلاقات البريطانية السعودية 1945 1971م، رسالة دكتوراه (صفحة 408))، وقد حافظ الملك عبدالعزيز على التوازن الاقتصادي والسياسي للبلاد، وفي حين أن هذه الحرب سببت في أنحاء كثيرة من دول العالم الجوع والعوز، فقد كان الوضع مختلفاً في دولة الملك عبدالعزيز، المملكة العربية السعودية، يقول الزركلي في كتابه شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز: «وفي خلال الحرب أنشئت دار الأيتام بمكة، ورصف طريق مكة - جدة بالإسفلت، وأنشئ سد في أعلى مكة لحجز السيول عنها، ونظمت جمعية الإسعاف الخيري، ووضع نظام الطرق ونظام جباية أموال الدولة» كما يضيف الزركلي بقوله: «وبينما العالم يعاني المجاعات، كانت مبرات عبدالعزيز تعم رعاياه، والأفران تعمل ويوزع خبزها مجاناً، وحكومته تسقط 25 % من رسوم الجمارك وتقرض التجار من رعاياها 25 % من قيمة ما يستوردونه، على أن يعيدوا ما اقترضوه بعد بيعهم ما استوردوه، ونائبه العام «فيصل» يقول في خطبة الحج عام 1359هـ (1941م): لا يجهل أحد ما فيه العالم اليوم من نكبات ومحن. حتى البلاد التي لم تشترك في الحرب، لا تخلو من أزمات اقتصادية وغيرها. أما نحن فلله الحمد، من أسعد الناس. وهذا بلا شك، من نعم الله التي تستوجب الشكر»، وجاء في خطبة ارتجلها اللك عبدالعزيز بمكة المكرمة في حجيج سنة 1359هـ: «كل ما ندعو إليه، هو جمع كلمة المسلمين واتفاقهم، يقوموا بواجبهم أمام ربهم وأمام بلادهم. والذي نشهد الله عليه، ونحن أوسطكم في الإسلام وأوسطكم في العروبة، أننا ما ننام ليلة إلا وأمر جميع المسلمين همّنا» وقد نشرت جريدة أم القرى يوم الجمعية 24 رجب سنة 1358هـ الموافق 8 سبتمبر 1939م في عددها رقم 769 مقالاً بعنوان: «نحن والحرب الاطمئنان الشامل يسود المملكة العربية» وجاء فيه: «من الطبيعي وقد اندلعت ألسنة الحرب الأوروبية وقدح زنادها، أن يفكر العقلاء في المصير المجهول وأن يتدبروا الموقف الخطر المملوء بالمفاجئات والأهوال وأن يعدوا العدة لتجنب ويلات الحرب وتلافي ما قد تحدثه نشوبها من خلل في النظام الاقتصادي وفيما اعتاده الناس من أمور المعاش والتجارة والصناعة وما أشبه... أما نحن في هذه البلاد الآمنة الوادعة في حرم الله وجيران رسول الله، في بلاد جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود كلها، حجازها، ونجدها، وتهامتها، وسراتها، فإننا ولله الحمد والمنة، آمنون مطمئنون وادعون، بعيدون عن الأخطار سالمون إن شاء الله من ويلاتها ومصائبها وأعناتها». وجاء في المقال أيضاً: «نحب أن نطمئن بني قومنا ونؤكد فقبل كل شيء يوجد على رأس البلاد مليكها المفدى حضرة صاحب الجلالة الملك عبدالعزيز فهو بعبقريته اللامعة وإخلاصه المتفاني في سبيل بلاده وقومه ساهر ليله ونهاره سهر الأب الشفوق والمرشد الصالح على التفكير فيما يعلي شأن البلاد ويضمن لها سلامتها ورفاهها وتمتع أهلها بالأمن الوارف والرخاء المقيم، ولا شك في أن هذا أكبر ضمان نستند إليه بعد الاتكال على الله عز شانه ونعتمد في الملمات عليه، ومن وضع اعتماده وثقته في الله العظيم ثم في جلالة الملك فإنه بحول الله وقوته آمن مطمئن لا خوف عليه ولا قلق يأتيه «، استمر الملك عبدالعزيز في اتخاذ الحياد في شأن الحرب، لكي يجنب بلاده ويلات الحروب وشرورها، ولكنه؛ بعد تأكد خطر النيات النازية على السلام العالمي، أعلن الحرب على ألمانيا وذلك في ربيع الأول 1364هـ الموافق مارس 1945م، وبذلك ضمنت المملكة العربية السعودية تأييد الحلفاء وشكرهم، مما أدى إلى دعوة المملكة العربية السعودية لتكون من الدول المؤسسة لهيئة الأمم، وقد أصبحت العلاقات بين ألمانيا والمملكة العربية السعودية مقطوعة حتى سنة 1957م (مقاتل من الصحراء)، وفي هذا السياق يقول أمين سعيد في كابه تاريخ الدولة السعودية: «واقترح روزفلت وتشرشل على أقطاب العرب الثلاثة الذين اجتمعوا بهم وهم الملكان عبدالعزيز وفاروق والرئيس شكري القوتلي، أن تعلن حكوماتهم الحرب على دولتي المحور وقالا أن هذا الإعلان لا يتقاضاها جهداً ولا بذلاً، فقد كانت الحرب توشك أن تلفظ أنفاسها ولكنه ينل حكوماتهم حق الاشتراك في إنشاء هيئة الأمم المتحدة وكانوا يعدون معدات إنشائها وأعجب الملك عبدالعزيز بالفكرة وارتاح إليها، فأعلنت حكومته يوم أول مارس سنة 1945م الحرب على ألمانيا وإيطاليا مستثنية من الحرب منطقتي مكة والمدينة باعتبارهما مدينتين مقدستين ومراعاة لمقامهما في العالم الإسلامي»
وانتهت الحرب، بما أذاعته محطات الراديو العالمية، مساء 25 جمادى الأولى 1364هـ الموافق 9 مايو 1945 من أن الألمان استسلموا بلا قيد ولا شرط، ونشرت جريدة أم القرى في عددها 1371 الصادر في 16 شوال 1370هـ الموافق 20 يوليو 1951م البلاغ الرسمي رقم 148 ونصه: «بالنظر للأسباب المقتضية فإن وزارة الخارجية العربية السعودية تعلن إنهاء حالة الحرب التي كانت بين المملكة العربية السعودية وبين ألمانيا».
ولازال هذه البلاد بفضل الله تنتهج نهج الوالد المؤسس -رحمه الله- من خلال سياسات واضحة، تغلب مصلحة البلاد وما يعود على الشعب بالنفع والفائدة، يقول الدكتور إبراهيم بن عبدالله السماري في كتابه: الملك عبدالعزيز الشخصية والقيادة صفحة 135: « مع وضوح سياسة الملك عبدالعزيز في أعماله الداخلية والخارجية، إلا أنه كان حريصاً على إفهام الناس بها، وبدوافعها، وبخلفيتها» وينقل السماري أيضاً قول للمؤسس رحمه الله أن لا يعادي أحداً ولا يتدخل في شؤون البلدان الأخرى وكل حرصه على بلاده وشعبه، فيقول -رحمه الله-: «وأنا وإن كنت ملكاً، ولكنني أوقفت نفسي وعملي على ثلاث مسائل:
1) أنني أعمل ما فيه الخير والصلاح لديني، إن شاء الله.
2) ليس لي رغبة في معاداة أحد من المسلمين؛ صغيراً أو كبيراً.
3) أنا لا أحب الاعتداء على أي كان، وجل غايتي في كل وقت: الدفاع عن ديني، وشرفي، وبلادي، وأشهد الله في هذا الشهر المبارك على أنني أتمنى وأسعى للائتلاف والتصافي في كل وقت»
حمى الله وطننا ومنحه الأمن والأمان والاستقرار، وجنبه شر الحروب والأزمات، تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظهما الله وأيدهما بالتوفيق والسداد.