مضت حياة الشاعر أحمد الصالح (مسافر) نبضاً شعرياً متواصلاً وتحليقاً شاعرياً حالماً منذ صافحه بجناحية طائر الشعر الجميل ومنذ لفحه دفء لهيب الإلهام فأصبح من سارقي ناره المدمنين. كان يعيش الشعر حياةً ويتعاطاه زاداً وبلسماً ويستغرق فيه ولهاً وعشقاً، وما كان يعنيه مآل شعره ولا مكانته، ولا كان يتوسّل موقعه في سوق المعجبين أو مزادات الإطراء والتبجيل فقد كان لسان حاله كما قال نزار:
كفاني إذا قيل يوماً أحبّ
ولا أطلب الشاعر الجيدا
بدأ كثير من شعراء الحداثة بقصائد أو دواوين عمودية (كلاسيكية) وانتهوا، بل غرقوا، بشعر التفعيلة، بينما بدأ مسافر بشعر التفعيلة واستغرق فيها معظم قصائده ثم انتهى كلاسيكياً مُغرقاً حتى توارت حداثته أو كادت. لكنه في كل حالاته كان يغوص في بحور وجدٍ وتولّه وتجذبه خفقات الوجدان وكأنه يقول هاتفاً.. على جناحك يا شوق، وهو عنوان إحدى قصائده الوجدانية المبكرة.
تمازجت في شعره الحبيبة والأرض فما تدري أيهما مكمن العشق وجذوة الهيام، وتواشجت في قصائده ملامح الوطن وشواغف الحب، فلا تدرك إذا تنزّت عواطفه شعراً أهوَ ينسج ملاحم الوطن ويرتّل أمجاده أم هو يغرق في أمواج الحب ويتلو مواجده.
تعلّق شعرياً بالمدّ القومي المبكر تعلقاً رومانسياً صادقاً، بعيداً عن حواضنه الأيديولوجية، ثم صدمته النكسة الكبرى في بواكير اشتعاله الشعري فصبغت كل عطائه الشعري فيما بعد، ولم يعد حسه الشعري يصدق ما تطرحه الشعارات والتطلعات الحالمة فجاء ديوانه الأول معبراً بعنوان «عندما يسقط العراف». ثم صار الوطن والأمّة رديف الحب والحبيبة فتدفق شعره الغزلي مختزناً كلا المعنيَين ومتوهجاً بكلا المعشوقَين. ثم أصبح الشعر سفراً افتراضياً دائماً عبر ديوان «قصائد في زمن السفر»، وحين تأخذه هنيهات توقفٍ ليصرخ بمعشوقته الحبيبة -الأرض منادياً «انتفضي أيتها المليحة»، إذا به يتملّاها متهجّياً نظرتها «عيناك يتجلى فيهما الوطن»، وإذ تتجسد هيولاء الحبيبة من نسغ الأرض المضطرمة يهتف هائماً «لديك يحتفل الجسد»، وحين تحتضن الأرض تلك الهيولاء وتتلاشى بها أجزاؤها يطلق عبارة النعي الدامية «الأرض تجمع أشلاءها».
يوغل المسافر في سبر أحوال الحبيبة ويستشف ملامحها في ثنايا تضاريس الأرض فيخاتلها منادياً «تورقين في البأساء»، وحين تغيب مجدداً وتمعن في الغياب يكتشفها في أرض نبضه الداخلي فيستبشر هاتفاً «تشرقين في سماء القلب»، ويبالغ في احتوائها لائذاً عن سوانح الغياب فيناجيها «أصطفيك في كل حين»، لكن الجهامة تكسو مشارف تطلعاته إلى تلك الملامح المبتغاة فيحدو بما يشبه النعي هامساً «في وحشة المبكيات».
وإذا كانت هذه عناوين دواوينه التي ترشح مدلولاتها بنهج الحداثة وتكتنز بشعر التفعيلة فإن قصائده الكلاسيكية التي لم يُنشر معظمها تحتاج إلى أضعاف هذه الدواوين، ولم يعد هنالك ما يثير حماسه للنشر فقد أدرك أن الشعر في زمن انزواء وأن سوقه إلى كساد، لكنه ظل يهذي به في جميع تواصلاته فلم يعد يتقن أو يستمرئ الكلام إلا شعراً.
وبعيداً عن الشعر كانت الأسرة عشقه الآخر فقد وقف حياته ومشاعره على أسرته وكان لقاؤه بأبنائه وأحفاده مهرجانه اليومي نائياً عن كل منشطٍ حياتيّ آخر متفانياً ومثابراً في خدمة الصغير والكبير حتى آخر لحظة من نشاطه البدني. ومن معين هذا الحب والوصل المستديم كان يتعاطى بنفس الحب والتواصل الحميم مع كل أحد فكل أقاربه وأصدقائه ومعارفه هم امتدادات أسرية لأسرته الصغيرة، وسائقه أخ وخادمته ابنة ومن يتعامل معه بخدمةٍ أو سلعة يلقاه بالألفة والبشاشة وقد يندمج معه في تعاملٍ مستديم.
مذ أنشب المرض أنيابه في سنته الأخيرة وهو يتفادى نوباته ويتفلّت من إلحاحه ويتحايل عليه بالصبر وإشاعة البهجة والانغماس في شؤون حياته العادية، يدعمه في ذلك إيمانه القوي ويقينه برحمة الله واعتقاده بأن آلامه ومواجعه الخاصة لا ينبغي أن تكون سبباً في نكد أو تكدير حياة أهله ومحبيه، فكأنما ادّخر ما يكابده خبيئة عند بارئه.
وعندما أوهنه المرض ولزم سريره في المشفى دخل في حالة صمت طويل ونفَسٍ خافت، وكانت أطياف دواوينه تحتشد على باب غرفته فتتسرب قوافيه عبر مسارب الباب وتنثال على أطراف سريره تؤطره وتزخرفه وكأنما تؤرجحه أو تحلق به في سماوات الشعر فقد آن لها أن تخلو به وحيداً وبعيداً عن كل أحد. وفي منتصف نهار يوم السبت 4-4-1444 يتنفس قافيته الأخيرة ويسلم الروح إلى بارئها.
رحم الله الشاعر مسافر وتغمده بواسع رحمته وجعل محطته الأخيرة في سفره الأبدي جنةً عرضها السموات والأرض.
** **
- عبدالرحمن الصالح