منصور ماجد الذيابي
اعتاد الإنسان العربي من خلال متابعاته ومشاهداته للمحطات الفضائية ووسائل التواصل والتقارير الإخبارية الصحفية والمنصّات الإعلامية الرقميّة التي ترصد الوضع الأمني والسياسي في فلسطين المحتلّة، اعتاد على سماع وقراءة كلمة «مستوطنات» التي تشير إلى بناء إسرائيل أحياء سكنية يهودية على أنقاض منازل السكّان العرب الأصليين في الضّفة الغربية والقدس الشرقية وغيرها من الأراضي العربية بهدف طرد العرب وتهويد الانتماء لأرض فلسطين، لكن المشاهد العربي قد لا يكون معتاداً على فكرة بناء مستوطنات ثقافية في زوايا العقل العربي المثقل أساساً بهموم الحياة اليومية، والمُزدحم بمستوطنات ثقافية غربية الهوى والهوية كانت قد هاجرت إليه وتغلغلت وتوغّلت وانتشرت في أفق ومحيط ثقافته العربية الإسلامية إلى حدّ أن جعلته غير قادر على مقاومة أي محاولات أخرى للتوسّع في الاستيطان الثقافي على حساب الهوية الوطنية التاريخية وعلى حساب العقيدة التي يؤمن بها والثقافة التي يعتزّ بها ويناضل من أجل المحافظة عليها جيلا بعد جيل.
نعلم أنّ لعقل الإنسان طاقة استيعابية محدّدة لا يمكنها أن تتحمّل أو تستوعب كل هذا السّيل من المعلومات والصدمات والثقافات التي تسلّلت إلى عقولنا واستولت عليها واستوطنت فيها بما يشبه المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلّة ذلك أنّ المستعمر لم يكتفِ باحتلال الأرض العربية لبناء المستعمرات عليها وإنما صنع لنا أيضاً ما يستوطن به في عقولنا العربية من خلال ما يعرف بالغزو الثقافي المؤدلج بقيم ذات أصول ثقافية مختلفة.
وهنا أتذكّر عندما كنت في إحدى الدّول الأوروبية خلال مرحلة الدّراسة عندما تقدّم نحوي أحد المبشّرين بالدّين المسيحي طالباً منّي السماح له بأن يحدّثني عن يسوع المسيح محاولاً إيجاد ثغرة فكرية يتسلّلُ من خلالها لكي يُحدث نوعاً من زعزعة الثّقة بأصول ثقافتي العربية التي أنتمي لها وبالتالي محاولته ايجاد موطئ قدم يسمح له بتوطين ثقافته أو بناء مستوطنة ذات خصائص أيديولوجية منافسة للمستوطنات التي أنشأها الآباء والأجداد والمعلّمون العرب وتشرّبنا بتقاليدها ونشأنا على فضائلها وطبيعة مزاياها الحميدة منذ نعومة الأظافر قبل قرون عديدة من الزمن. فهذه الثقافات المُصدّرة والعابرة للقارات تعتمد في آليات عملها على وسائل الإقناع وتشبه إلى حدّ كبير تصدير الثورة الخمينية إلى بعض الأقطار العربية إبّان فترة الانقلاب على الإمبراطورية الشاهنشاهية.
ولم أكن حينذاك مُدجّجاً بما يكفي من أدوات الثقافة العربية الإسلامية للمشاركة في مناظرة ثقافية «على الرصيف» مع هذا المُبشّر الخطير، غير أن منظومة الدفاع الفطرية والتعليمية لدي كانت تعمل بكفاءة عالية لصد وإحباط أي محاولة لهجوم ثقافي مؤدلج بفكر عابر إلى قناعات الانتماء المحصّنة بأسوار ثقافية عالية وأسلاك تربوية شائكة.
ولذلك، ومن أجل حماية العقل الملتزم بميثاق الهوية العربية من تداعيات التّسلل والتغلغل فيه لأجل بناء مستوطنات ثقافية لا تقل خطورة عن بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضّفة الغربية، فإنه ينبغي على المؤسسات التعليمية والتربوية تعزيز مفهوم الثقافة الوطنية وضخّ المزيد من قيم الثقافة المحلّية وتقاليد الهوية الوطنية في عقول الأجيال الشّابة والناشئة، وأيضاً إطلاق جرس الإنذار المُبكّر مما قد تحمله وتنقله وتبثّه أو تنشره وتدفع به المنظّمات التبشيرية الأيديولوجية والثورات والتّيارات الفكرية الخارجية تجاه العقول العربية لزعزعة قناعتها بثقافتها ولغتها وتفكيك أواصر انتمائها لهويتها الوطنية وفك ارتباطها بجذورها التاريخية.
وكما أوضحت في مقال سابق بعنوان: «التّحولات الثقافية وتأثيرها في سلوك الإنسان»، فإننا نعلم جميعاً بأن لكل مجتمع ثقافته الخاصة التي يسعى لتعريف الآخر بها وبرموزها وموروثها وسماتها وجمالها غير أن محاولات فرض ثقافة معينة على مجتمعات أخرى عريقة الهوية والثقافة والتاريخ إنما يكون بمثابة شنّ حرب ثقافية تتّخذ من المستوطنات الثقافية المعدّة مسبقاً منصّات لإطلاق صواريخ ثقافية عابرة لعقول عربية أخرى يفترض أن تكون مجهزة ومزوّدة بمنظومة فكر دفاعية ضد أيّ هجوم محتمل قد تتعرّض له عناصر العقل العربي الجمعي، وبالتالي سقوط ثقافات لا زال بعضها راسخاً وصامداً أمام عواصف الثقافات الأخرى.
لهذا ينبغي تعزيز الدفاعات الثقافية لأجل التّصدّي لقذائف ثقافة عابرة تستهدف تدمير البنية التّحتية للعقل العربي وتزعزع استقراره ثقافياً من خلال عزله أولاً عن جذوره العميقة ومن ثم حصاره لاحقاً وتفجير انتمائه وفك ارتباطه بالقيم النبيلة التي يناضل من أجل بقائها في خارطة الثقافات العالمية المختلفة كما أوضحت سابقاً في مقال بعنوان « أهمية الثقافة في حياة الأمم».