د. تنيضب الفايدي
أقفر من أهله ملحوب
فالقطبيات فالذنوب
فـشراكـس فـثعيلبات
فذات فرقين فالقليب
بدأ الشاعر معلقته بـ (سبعة أماكن) في بيتين من الشعر (ملحوب، القطبيات، الذنوب، شراكس، ثعيلبات، ذات فرقين، القليب )، تلك المواقع قد لا يعرف القراء والقارئات أيّ واحدٍ منها، مع أنها عزيزة وغالية لدى من عرفها أو سكنها،كما هي غالية عند من أحبّ وطنه وعند كلّ أديب، ومنهم: صاحب معلقة (أقفر من أهله ملحوب) الشاعر الجاهلي/ عبيد بن الأبرص، حيث ذكرها في معلقته، و الشاعر هو عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك من قبيلة بني أسد الخندفية المضرية، شاعر جاهلي من أصحاب المعلقات، ويعدّ من شعراء الطبقة الأولى، قتله المنذر بن ماء السماء حينما وفد عليه في يوم بؤسه ( كما يقال ). عاصر امرأ القيس، وله معه مناظرات ومناقضات، وهو شاعر من دهاة الجاهلية وحكمائها، وأحد أصحاب المجمهرات المعدودة طبقة ثانية عن المعلقات. وبني أسد مجاورون لبني عبس قبيلة عنترة بن شداد. وقد حولت أسماء تلك المواقع (أي: مواقع قبيلة بني أسد) إلى أسماء أخرى عبارة عن قرى مثل: هدبان، الحسو، أبو مغير، المحامة، النقرة، رامة، ومن تلك القرى قرية بُلْغَة، وتبعد بُلْغَة عن الحناكية حوالي 120 كم شرقاً، وتعتبر من القرى الغنية بالثروة التعدينية، وإدارياً ترتبط بمركز الهميج، وبقربها جبال مشهورة مثل: جبال ماوان وجبل راكس، وهي تقع في وادٍ يقال له وادي رغوة، هو واد كبير يسيل من شفا الربذة، وينحدر شمالاً ثمّ إلى الشرق، كثير الأشجار، طيب المرتع، يضرب به المثل لجودة مرتعه.
وللكاتب ذكريات مع هذه القرية حيث تمت زيارة مدرستها الابتدائية في نهاية عام 1407هـ أو بداية عام 1408هـ، وقد أمضيت يوماً كاملاً في زيارتها والإطلاع على ما يحيط بها، وبُلْغَة تعني ما يتبلغ به الإنسان إلى فترة محدودة حتى يصل إلى وطنه إن كان مسافراً، وهذه صفةٌ طيبة ولاسيما أثناء السفر مع القوافل قديماً، وكان بها عند زيارة الكاتب خمسة معلمين، منهم ثلاثة غير وطنيين أي: من البلاد العربية، وكان أحدهم متضايقاً من اسم بُلْغَة،وجعل عنوان مراسلته مدينة الحناكية بواسطة أحد زملائه الذين يعلّمون في مدرسة الحناكية، وعندما سألته عن ذلك قال: بأنها تعني نوعٌ من الحذاء في بلادنا، فكيف أكتب لأهلي بأني أدرّس وأسكن بها! وقد ذكرت في العنوان: بُلغة ومقدمة معلقة عبيد بن الأبرص يليها:
إِن بُدِّلَت أَهلُها وُحوشاً
وَغَيَّرَت حالَها الخُطوبُ
أرضٌ توارثها الجُدودُ
فكلُّ من حَلَّها مَحروبُ
إِمَّا قَتيلاً وإمَّا هُلكاً
والشَيبُ شَينٌ لمن يشيبُ
أرأيتم كم هي غالية تلك المواقع التي ذكرتها في المقدمة، وقد يتضايق من أسمائها البعض، ولكنها أرضٌ توارثها الأجداد عمن سبقهم، ويا ويل من يقترب منها فأقلّ جزاء له القتل؛ لأن وطن الشاعر غالٍ لديه، و ذات فرقين تشاهدون صورتها وكذا القطبيات، أما بقية الأماكن مثل: ملحوب والذنوب، وشراكس، ثعيلبات والقليب، كلّها أماكن محددة حول قرية بلغة في قلب نجد. والمواقع المذكورة مكثتُ فيها ما يقارب شهراً مع بعض الزملاء متنقلاً بين قراها لمتابعة المدارس، ومن عاش حولها ولو لأيام يقدّر قيمتها.
و حبّ المواقع يعزز حبّ الوطن؛ لأن حبّ المواقع من الوطن لا يثبت إلا في نفس كريمة، وبيئة صالحة؛ لأنه دلالة على كرم النفس، وصفاء السريرة، والبعد عن الأثرة، وهو خصلة شريفة، وخلّة رفيعة، وخلق حميد، وأدبٌ سامٍ يتميز بها الكرام، ويتمايز بها الأبطال، ويهفو إلى اكتسابها الشرفاء، كما أن حب الوطن نية صادقة، وعزم جازم، وإرادة قوية، وفعلٍ رفيع، وإحساس إنساني مليء بالحبّ والحنان، والعطف لكلّ ما حولك من الموجودات ، ورغبة أكيدة في الدفاع عنه وحمايته.
والبعد عن الوطن قد يسبب الجنون كما يقول الشاعر نزار قباني ضمن قصيدةٍ بدأها بالغزل حيث قال:
أتراها تحبني ميسونُ
أم توهَمت والنساء ظنونُ
كم رسولٍ أرسلته لأبيها
ذبحته تحت النقاب العيونُ
ثم قال وهو يخاطب وطنه وطلب أن يحتضنه:
احتضني ولا تناقش جنوني
ذروة العقل، يا حبيبي ، الجنون
أهي مجنونة بشوقي إليها
هذه الشام أم أنا المجنون
وطني يا قصيدة النار والورد
تغنت بما صنعت القرون
إلى أن يقول:
اعذريني إذا بدوت حزيناً
إن وجه المحب وجه حزين
ولأن وطن الإنسان غالٍ عليه ويعتز به، ويتمنى أن تكون نهايته في وطنه مثل الشاعر القروي الذي طوق بلاد الله، ولكنه عاد لوطنه ليموت فيه حيث قال:
بنت العروبة هيئي كفني
أنا عائدٌ لأموت في وطني
أأجود من خلف البحار له
بالروح ثم أضنن بالبدن؟
أما الشاعر الفلسطيني « محمود درويش فقد قال:
وأبي قال مرة :
الذي ماله وطن
ماله في الثرى ضريح
ونهاني عن السفر