د.محمد بن عبدالرحمن البشر
كتاب النخبة السنية في الحوادث المكية لمؤلفه أحمد أمين بيت المال -رحمه الله - كتاب مشوّق سبق أن أشرت إليه في مقال سابق، والحقيقة أنه كتاب يستهوي أغلب من يقرأه، لأن كاتبه لم تكن غايته القدح أو المدح لمن ذكر أسمائهم، كما أن الوقائع التي تحدث عنها تتعلَّق بالحياة اليومية للمجتمع المكي الكريم، ولن أعيد ما ذكرت في مقال سابق، ولهذا فسوف أنقل بتصرّف وأعلق على بعض مما ذكره، وما ذكره الأستاذ الكريم محقق الكتاب السيد حسام بن عبدالعزيز مكاوي.
لقد ذكر المؤلف أسماء عوائل مكية كريمة جمعتني بهم مقاعد الدراسة في الداخل والخارج، كما جمعتني بهم مواقع العمل في الداخل والخارج أيضاً، وعرفت الكثير من خلال الكتاب عن تلك العوائل الكريمة، وهذا ما قد لا يعرفه إخواني الكرام عن ماضيهم المجيد، كما أعطى صورة حقيقية عن الحياة الاجتماعية لذلك المجتمع في بيئته المكية، وأعطى المؤلف صورة عن الاحتفالات الاجتماعية والدينية ومناسبات الأفراح والأتراح، وأيضاً البروتوكولات الرسمية الخاصة بالمسؤولين في مكة المكرمة، وأيضاً الوفود الهامة التي تصل إلى مكة مكرمة للحج أو العمرة أو زيارة.
من الأمثلة على ما ذكره المؤلف -رحمه الله - خبرًا بسيطاً يسيراً لكنه يعطي شيئا عن ما حدث في مكة المكرمة في ذلك الوقت قبل 200 عام تقريباً أو أقل بقليل، فهو يذكر أن شيخ الجزارين -رحمه الله - قد توفي، وأنه قبل وفاته كان عاجزاً مريضاً يركب حماراً، كما أنه اعتاد على أن يحضر حول الأولياء، ولا يترك الحضور، وهذه المعلومة البسيطة عن إنسان بسيط، تساوي أي معلومة أخرى عن آخرين أكثر أهمية لأنها تعطي فكرة عن حال المجتمع، حتى وإن لم يترتب على الحدث أمر ما، وزيارة الأولياء كانت معتادة في ذلك الزمان، في ذلك المكان، وفي غيرها من الأماكن، وما زالت هذه الممارسة قائمة في بعض بلدان العالم الإسلامي، وهو عندما يقول إنه يزور الأولياء، فهو بهذا يثني عليه، لكنه أفادنا عن الحياة الاجتماعية والدينية، كما ذكر لنا قصصاً عن تسعيرة اللحم والنقاش حولها بين الجزارين وشيخهم، ومراقبة المسؤول عن الأسواق، وحرصه على أن تكون الأسعار مناسبة، وأنه كان رجلاً أميناً موثوقاً.
قصة ظريفة ذكرها المؤلف -رحمه الله - تتعلق بأحد الأشخاص الذي تسلق شجرت حماط، والحماط نوع من أشجار التين، وفي نجد هناك مثل مشهور يضرب لوصف أمرين متشابهين، فيقال: (الحماط ابن عم التين) بعد أن تسلق الرجل الغريب شجرة الحماط التي في أحد البساتين الخاصة بأحد الأشخاص بالعقيق الواقعة بالطائف صاح عليه الصغار الذين تحت الشجرة وطلبوا منه النزول عن شجرة بستانه، لكنه لم يستمع إليهم، واستمر في قطف الثمر، ويبدو أن أحد الشباب قد غضب من ذلك التحدي، فضربه بمشعاب، والمشعاب عصا غليظة لها رأس مدور كبير، فنزل الرجل من الشجرة، وكان معه سكين أو نحوها، فما كان منه إلا أن طعن الشاب صاحب البستان، وهرب الطاعن إلى جماعته والتجأ إليهم، فأجاروه وحموه، وخشية من الفتنة بين القبيلتين، أختار المسؤولون عشرة من وجهاء قبيلة الجاني، وحبسوهم حتى يسلموا الجاني، وأكدوا أنهم سوف يقتلونهم إذا لم يحضروا ذلك الجاني، فما كان منهم إلا أن أحضروه، هذه القصة فيها عبرة تتعلق بالصبر والأناة، وعدم الغضب الذي يفضي إلى مصيبة اكبر، والحقيقة أن الغضب وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكد على ذلك، فهو يؤدي أحياناً إلى ما هو أعظم أسى، والشواهد كثيرة في الماضي والحاضر.
من المعلومات التي أضافها إلينا مؤلف الكتاب، أن أهمية العرس وكبره ينظر إليه من خلال عدد القناديل والتنانير والشموع والسرج، وكل ما كثرت، كل ما كانت أهمية الزواج أكثر، ولهذا فقد بلغت السرجة في إحدى الزيجات المهمة أكثر من ألف وخمسمائة، وعدد كثير من التنانير، والشموع، والأجمل أن المسؤول عن النظام، قد أصدر أمرًا بعدم السهر في حفلات الزيجات، لأن زيجات سابقة قد امتدت إلى أذان الفجر، وهذا أمر غير مقبول، فما كان منه إلا تحديد وقت للانتهاء.
لم يقتصر حديث المؤلف عن العامة فحسب، وإنما كان المؤلف يسجل لنا ما يحدث للخاصة، مثال ذلك ما كتبه عن مضاربة حدثت بين رجلين طعن أحدهم الآخر، وذكر الأسماء، ثم هرب، فما كان من الحاكم إلا أن أمسك بوالد الهارب، وأعطاه مهلة أسبوع لإحضار ابنه، لكنه لم يستطيع إحضاره، فأوقفوه وتوجه له الوجهاء، ولكن المطعون ولله الحمد شفي، يبدو أن الأمور انتهت على خير ما يرام، وفي نفس الوقت، سجل لنا ما سماه مغزى، وهو يعني الغزو، وذهب فيها ابن الحاكم إلى منطقة من المناطق، وكأن غاضباً من أحد القبائل، وعندما قدمت القبيلة إليه للمشاركة، أخذوا في العرضة ورجزوا رجزاً ليناً، فأمسك الحاكم بعشرة من مشايخهم، فوعدوه النصح والولاء، ورضي عنهم وشاركوا في غزوه الجهة التي يريد محاربتها، وفي هذه المسيرة انضمت قبائل أخرى مع ابن الحاكم إما خوفاً أو طمعاً، وهذا أمر مألوف، والمؤلف لم يعط تفاصيل ما حدث في المعركة، ونتائجها، لأن غايته أن يعطي خبراً قصيراً، وليس الإسهاب في التفاصيل التي اعتاد عليها المؤرِّخون الحوليون أو الموضوعيون عبر التاريخ الإسلامي.