د. محمد بن إبراهيم الملحم
بالإضافة إلى تحسين البنية التحتية المؤسساتية كعنصر مهم للتغير التعليمي والتي تتمثَّل في إعادة الهيكلة والصلاحيات بالإضافة إلى ضمان التواصل الفعّال فإن تحسين ثقافة العمل هي قضية كبرى ومسألة مصيرية تقريباً في نجاح التغيير، خاصة ذلك الذي هو من النوع الناعم، وأقصد به التغيير في ممارسات الأداء سواء أداء المعلم في عمله التدريسي أو ممارسات القيادات التعليمية مثل مديري المدارس أو المشرفين التربويين أما التغيير في الجوانب الأخرى مثل الأنظمة والأدوات (مثل استخدام السبورة الذكية) والوسائل (مثل التدريس عن بعد) فكلها لا تؤثر فيها ثقافة العمل كثيرا إذ تفرض نفسها من خلال وجودها وتفعيلها. التغيير في الجوانب الناعمة يتطلب قبولا نفسيا وفكريا وكلاهما يتطلب فهم وتفهم، فأما الفهم فهو بمعناها الحرفي أن يفهم المطبقون ما يتطلبه التغيير من ممارسات وإجراءات ويفقهوا معانيها وخطواتها وإجراءاتها التي جاء بها التغيير الجديد (ومثاله التقويم المستمر وإجراءاته والتي طبقت أول ما طبقت بطريقة خاطئة نتيجة عدم الفهم فعلاً) ثم يأتي التفهم: وهو يختلف عن الفهم إذ يقصد به الإيمان بالأفكار الجديدة وقيمتها، سواء قيمتها التعليمية للطالب أو قيمتها الوطنية أو دورها في تسهيلها للتدريس على المعلم ونقصد به تسهيل التدريس الفعال ذلك الذي يستوعب من خلاله الطالب كل متطلبات المعرفة المطروحة، فإذا ما آمن المعلم (أو المدير أو المشرف أو حتى الموظف الإداري) بما يتضمنه التغيير الجديد من قيم ومضامين نفعية مهمة فإنهم يتحملون في سبيل تحقيقه ونجاحه ما يترتب عليهم من بعض العناء في تعلمه وإتقانه، وأقول «في تعلمه وإتقانه» لا في «تطبيقه» ذاته فحينما يحمل التغيير معه تكاليف وأعباء إضافية على المنفذين فإنهم غالبا سيجمعون على مقاومته، خاصة إذا كانت الأعباء كثيرة ولها أثرها، أما مزيدا من العمل اليسير مع مكاسب ذات قيمة للمتعلم فإن فئة كبيرة من الناس تتقبلها في العادة مما يجعل البقية يتقبلونها مع الوقت.
ثقافة العمل هي التي تصنع مثل هذا التقبل، وهذه الثقافة لا تبنى في يوم وليلة بل هي نتاج جهد طويل من التوعية والتأسيس وزرع قيم الانتماء للمؤسسة والمهنة، وهو ما لا تتقنه أغلب المؤسسات التعليمية مع الأسف حيث تعامل المعلمين والممارسين في الميدان معاملة «الموظف» لا معاملة «المهني المحترف» مما يجعله يرد في المقابل بنفس الطريقة فيعامل مؤسسته على أنه «موظف» لا على أنه مهني «حامل رسالة»، وكيف تصل المؤسسة إلى ذلك المستوى الراقي من ولاء منسوبيها لمهنتهم ورسالتهم ومؤسستهم فهذه قصة يطول شرحها لكنها تتلخص في لمحات معدودة أوجزها في توفر العنصر القيادي الإنساني في المؤسسة من رأس هرمها إلى أصغر قائد فيها، ولا يتحقق ذلك بالتدريب الشكلي المفرغ من الواقعية ولا بالخطابات البليغة والعبارات المبهرة المستلة من أدبيات فن القيادة وإنما من خلال الممارسات الحية لقيادات المؤسسة نفسها وبث مبدأ القدوة الحسنة، كما يتمثل الولاء أيضا في نشر ثقافة المهنة بشكل احترافي جاذب لا من خلال برامج تدريبية باهتة يقدمها مدربون قرأوا في كتب التربية وأعدوا مادة دسمة في عروض باوربوينت مبهرة وتنافسوا في جذب متدربيهم بالكلام المدبج بينما لا يحفل تاريخهم التدريسي هم أنفسهم بممارسات مبهرة من نحو ما يتحدثون به في قاعات التدريب! وإنما يجب أن يكون لهؤلاء رصيد خبراتي مشرف ينهلون منه كما أنهم يجيدون مزجه مع نظريات ونماذج التعلم ليقدموا لمتدربيهم القدوة والمعرفة المتجددة بطريقة إبداعية، وكما ذكرت فإن ثقافة العمل لها أبعاد متعددة وجوانب عميقة وتحتاج جهوداً احترافية ووقتا لبنائها لكنما أثرها عميق جدا حال توفرها في نسيج المؤسسة التعليمية حيث يسهل تقديم التغيير التعليمي المؤثر والارتقاء بعملية التعلّم درجة بعد درجة وصولاً بها إلى أعلى مراقي السلم.