د. تنيضب الفايدي
قام الكاتب برحلة برية من المدينة المنورة إلى دومة الجندل مروراً بحائل، وكانت المسافة طويلة ما بين المدينة المنورة والجوف عن طريق حائل، وفي الطريق ما بين حائل والجوف كانت هناك كثبان رملية هائلة يطلق عليها رمال عالج، حيث تمتد مئات الأميال، كما يطلق عليها (كثبان طَيْ)، حيث عرج عليها الباحث مع صحبه ذاكراً لهم:
سائق الأظعان يطوي البيد طيْ
منعِماً عرِّجْ على كثبان طيْ
وبذات الشيح عني إن مَرَرْ
تَ بحيٍّ من عُريب الجزع حيِّ
وتلطف واجر ذكري عندهم
علّهم أن ينظروا عطفاً إليّ
ويكرر ذلك على أسماعهم دائماً ولاسيما بعض الأبيات الشهيرة التي تناولت دومة الجندل ومنها:
حمامة جرعا دومة الجندل اسجعي
فأنتِ بمرأى من سُعَادٍ ومَسْمَعِ
وقد حفظ صحبه أو بعضهم على الأقل هذا البيت من كثرة تكراره، وأخيراً وصلنا دومة الجندل الضاربة في التاريخ، حيث لا يخلو أي مؤلف لموقع تاريخي تقريباً ولاسيما تاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ الأسواق إلا ويذكرها وتوصف دومة الجندل دائما بارتباطها بحصن مارد وسميت دومة الجندل؛ لأن حصنها بني بالجندل (الصخور). وعند الوصول علق بعض أصحابه مستهزئاً لم نسمع سجع الحمام بل ولم نره وأين سعاد التي أكثرت من ذكرها أثناء السفر؟ وللإجابة على تساؤله تذكّر الباحث بعض أبيات من قصيدة بانت سعادُ التي ألقيت أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم حول مواعيد سعاد:
فلا يغرّنك ما منّت وما وعدتْ
إن الأمانيّ والأحلام تضليل
كانت مواعيد عرقوبٌ لها مثلاً
وما مواعيدها إلا الأباطيل
تقع دومة الجندل في منطقة الجوف شمال الوطن الغالي وتعتبر مركزاً ثقافياً منذ القدم، حيث ذكرت بعض الروايات أن الحرف العربي ابتدأ منها واخترعت بواسطته الكتابة وتطورت فيها دون غيرها من بلاد العرب، ثم علّمت أهل مكة كيف يكتبون، وذلك بأن بشر بن عبد الملك الكندي أخو الأكيدر صاحب دومة الجندل كان يأتي الحيرة فتعلم الخط العربي من أهلها، ثم أتى مكة فسأله سفيان بن أمية وأبو قيس أن يعلّمهما الخط فعلّمهما، وتضيف تلك الروايات أنه ذهب إلى الطائف فعلّم نفراً من أهلها، ثم مضى إلى مصر فتعلّم منه نفر من أهلها الكتابة العربية ثم انتقل إلى الشام.. وهكذا.. صيد الذاكرة للكاتب (449) ودومة الجندل الضاربة في التاريخ لا يخلو أي مؤلف لموقع تاريخي من ذكرها ولاسيما تاريخ الجزيرة العربية أو تاريخ الأسواق إلا ويذكرها، وتوصف دومة الجندل دائما بارتباطها بحصن مارد. بلاد الجوف لابن جنيدل (ص100) وهو عبارة عن قلعة أثرية مهمة شيدت من الحجارة على مرتفع يطل على مدينة دومة الجندل ويعتقد أنها شيدت في القرن الأول أو الثالث الميلادي وشكلها بيضاوي وتتألف من سور فيه فتحات للمراقبة، ولها أربعة أبراج وفي داخل القلعة بئران عميقان محفورتان في الصخر. أما مبنى القلعة الرئيسي فيتألف من طابقين يضمان عدداً من الغرف للحراس والرماية والمراقبة وسميت دومة الجندل لأن حصنها بني بالجندل (الصخور) معجم البلدان للحموي (2/ 554). وفي النصوص الآشورية أول إشارة إلى العرب ويقصد بهم القبائل العربية التي تسكن دومة الجندل ويشار إليها باسم (أدوماتو) وذكرت بأنها حصن العرب، وذكر ملوكها بملوك العرب وذكرت لنا النصوص عدداً من الملكات اللاتي حكمن دومة الجندل، واستمتع أهلها بحكمهن وتصف الروايات بعدالة حكمهن وتوجد بعض الدلائل أن بداية تاريخ دومة الجندل في القرن الثالث الميلادي في عهد الملكة العربية (زنوبيا) التي حكمت تدمر ما بين 267 - 272م ويبدو أن هذه الملكة غزت دومة الجندل ولكن قلعة المدينة كانت حصينة بحيث لم تستطع فتحها وقالت مقولتها الشهيرة (تمرّد مارد وعزّ الأبلق) ومارد هو قصر مارد في دومة الجندل بينما الأبلق هو قصر مشهور في تيماء. وعرف من حكامها الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم: الأكيدر بن عبد الملك الكندي ووردت روايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا دومة الجندل. المغازي (2/ 560) ولكن حاكمها (الأكيدر) هرب ولم يصلها رسول الله صلى اللهعليه وسلم وأرسلت لاحقاً سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت في الإسلام واشتهر بها مسجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما اشتهرت دومة الجندل بالسوق الذي يحمل اسمها وأصبح راصداً للتاريخ حتى أزيلت معالمه قبل خمسين عاماً تقريباً.. وقد زار الكاتب القلعة وتجول في أرجائها واستمتع بالمناظر الخلابة لمدينة دومة الجندل التي تكشفها تلك القلعة ويحدثك عنها التاريخ الذي خطا الكاتب على بصماته في أعلى القلعة.