محمد بن عيسى الكنعان
مَن مِنّا لم يُسافر إلى إحدى دول العالم الغربي بشقيه (الأمريكي والأوروبي) دراسةً، أو عملًا، أو سياحةً، ويشاهد عن قرب مظاهر الحضارة الغربية المذهلة، ويعيش في قلب تفاصيلها الحياتية، وتعاملاتها اليومية، ويلمس مسارات تفوقها في المنتجات الصناعية، والتطورات التقنية، والخدمات المدنية، فضلًا عن كتب المفكرين العرب الذين تأثروا بهذه الحضارة المهيمنة، ونادوا بتبني مناهجها، وتقفي آثارها للخروج من مأزقنا الحضاري. غير أن هذه الحضارة التي جاءت كنتيجة طبيعية للتراكم الحضاري للأمم السابقة على مدار التاريخ، وانطلقت من أسس تلك الحضارات - القديمة والإغريقية والإسلامية - هذه الحضارة المعاصرة تمر اليوم بحالة تيهان في مسارها الإنساني، وهذيان في منطقها الفكري، والقضايا العالمية الراهنة المقلقة كشفت ذلك، ويكفي أن قضيتين برزتا في المشهد العالمي، وأعادتا الجدل الفكري والنقاش العلمي حول واقع الحضارة الغربية، من حيث الصلاحية كتطبيق عالمي، والمثالية كنموذج حضاري. فعلى الرغم من الانحياز المستمر لهذه الحضارة، والتبشير المتواصل بقيمها الحضارية ومبادئها الإنسانية من قبل أبنائها، أو المتعاطفين معها، أو المخدوعين في بريقها، إلا أنها دخلت مرحلة النقد المعرفي الجاد، ومراجعة حقيقة قيمها، ومدى قابليتها للتطبيق على المستوى الإنساني لكل أمم الأرض وشعوبها، بل وتحولت هذه المراجعة الناقدة من طورها الفكري (النظري) إلى طور الرفض الفعلي (الواقعي)، سواءً بمواقف سياسية من قبل حكومات غير غربية، أو مواقف ثقافية من قبل نخب مثقفة عالميًا، أو من قبل مؤسسات أكاديمية راقية، سواءً كانت غربية أو شرقية.
القضيتان اللتان وضعتا الحضارة الغربية على محك المراجعة، وتحت مطرقة النقد الرافض، هما قضية الشذوذ التي تسمى زورًا (المثلية)، والأخرى هي قضية (العنصرية) البغيضة التي انكشفت سوءتها فعليًا في أزمة أوكرانيا، عندما اعتبر الغرب أن الإنسان الغربي أعلى درجةً من أي إنسان آخر على وجه الأرض، سواءً في سوريا، أو أفغانستان، أو فلسطين،.. أو غيرها من الدول التي تعاني صراعات دموية أو حروب طاحنة، فتمت معاملة الفرد الأوكراني وفق هذه النظرة الجائرة والطبقية النتنة لأنه غربي، فلا يمكن أن يتعرض هذا الفرد الغربي الأوروبي للقتل، أو الترويع حتى!! أو أن يُطرد من بلده، أو أن يُعامل كلاجئ، بل ينبغي على كل دول العالم - حسب المنطق السياسي الغربي - أن تقف في وجه الدب الروسي، وأن تشارك في تطبيق العقوبات المفروضة على روسيا انتصارًا للإنسان في أوكرانيا، بل إن دولًا غربية بحكوماتها الديمقراطية مارست البلطجة تجاه كل ما هو روسي في بلدانها من إلغاء اتفاقيات ومشروعات ومصادرة أرصدة وغير ذلك، بينما هذا التوجه الغربي الذي يقطر إنسانيةً غاب تمامًا عن المشهد العالمي عندما كانت الطائرات الروسية تقصف سوريا، وتشكل غطاءً لقوات بشار الأسد في ذبح السوريين. أما الشذوذ الذي يُروج له على أنه من حقوق الإنسان، فهذا يعكس الغطرسة الغربية في فرض القيم والمفاهيم الحضارية وفق فلسفته الليبرالية، التي تؤكد حق الحرية والاستقلال والتصرف، ولكنها في الوقت نفسه ترفض منحك الحرية لترفض ما يُفرض عليك خلافًا لتعاليم دينك وتقاليد مجتمعك، بل لا يُسمح لك أن تُناقش من حيث المبدأ: هل هذا الشذوذ (المثلية) حق إنساني فعلًا؟ دون الارتهان لمرجعية يتفق عليها الجميع وهي الفطرة السوية، ودون أي اعتبار لمعتقداتك الدينية، واعتباراتك الأخلاقية، ومنظومة قيمك الاجتماعية.
قد يقول قائل إن التعامل العنصري عند الغربيين، جاء بدوافع سياسية وقتية، أو أن دفاعهم عن المثليين جاء في إطار تأييد الموجة التي تجتاح العالم لتسجيل مواقف معينة أمام شعوبهم، وهذا توصيف غير دقيق، لأنه أقرب ما يكون للتبرير وليس للتفسير! فالإشكال الحقيقي لأزمة الحضارة الغربية اليوم يكمن في البنية الفكرية والقيم الليبرالية، التي تأسس عليها واقع الإنسان الغربي وفي ضوئها يتعامل، سواءً في المجال السياسي، أو الاجتماعي، أو غيرهما من المجالات، والقضايا التي تحدث هنا أو هناك، هي في تجلياتها وسائل تكشف المواقف الحقيقية لهذا الإنسان. فما الذي سوّغ له استعمار الدول ونهب خيراتها بعد الكشوف الجغرافية، ومن سوّغ له إبادة شعوب كاملة، ومن سوّغ له أن يزرع سرطان الصهيونية في أرض العرب، ومن سوّغ له أن يقصف الأبرياء بالقنابل الذرية، ومن سوّغ له أن يفرض حصارًا على العراق حتى مات بسببه مليون طفل عراقي بسبب نقص التغذية. وقس على ذلك، والحال ينطبق على قضية (الشواذ)، فالغرب اليوم لا يعتبر الأسرة أساس النسيج الاجتماعي، لأنه لم يعد يُؤمن بها، فعندما تُلغي مفهوم الأسرة، وتذّوب التمايز الجنسي، فأنت تعارض بشكل محدد ومباشر الفطرة الإنسانية، التي يؤمن بها جميع البشر بمختلف معتقداتهم الدينية وتنوع ثقافاتهم، فالمسلمون ليسوا وحدهم من رفض الشذوذ، بل هناك شعوب ودول رفضت المثلية وأعلنتها، بل وصل الرفض إلى المجتمعات الغربية نفسها، وبهذا تفقد الحضارة الغربية قيمتها الفعلية كمشترك حضاري لكل الشعوب والأمم.
إن النموذج الحضاري الغربي اليوم يتراجع بشكل كبير وبوتيرة سريعة على مستوى العالم؛ بسبب افتقاره إلى قواسم مشتركة للقيم التي ينادي بها عالميًا، ولأنه فشل في إقناع الشعوب والأمم التي تتبنى ثقافات مختلفة بأن الثقافة الغربية (المتطرفة) في بعض قيمها ومفاهيمها يمكن أن تمتزج بثقافاتهم، أو تتكيف معها دون أن تُلغيها، ما يجعلنا نعتقد بغروب شمس الحضارة الغربية كنموذج مثالي، كما غربت شموس أخرى لحضارات أسهمت في البناء الحضاري للإنسان على وجه الأرض، بل حتى المفكر الأمريكي - ياباني الأصل - فرنسيس فوكوياما، الذي طرح نظريته الفكرية عبر كتابه: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، الصادر عام 1992م، زاعمًا أن العالم أجمع انتهى إلى النموذج الحضاري الغربي المتمثل بالليبرالية الغربية، هذا الفيلسوف والمفكر السياسي تراجع عن هذه النظرية بسبب ظهور النموذج الصيني، واستمرار المعارضة القوية داخل العالم الإسلامي لقيم الغرب. فهل يمكن القول: وداعًا للنموذج الحضاري الغربي؟. أم ما زال الوقت مبكرًا على الرغم من التصدعات الظاهرة في هذا النموذج!