مشعل الحارثي
والمعسل بتسكين العين وكسر السين ليس سوى اسم مكان أخذ شهرته من المياه التي تنساب فيه وعرفت بمياه (المعسل) لعذوبة طعمها ولذتها المميزة التي تشبه الشهد المصفى في حلاوته ونقاوته، وتقع هذه المياه في الثلث الأول من جبل الهدا (جبل كرا) للنازل من الطائف إلى مكة أو في الثلث الأخير للصاعد إلى الطائف من مكة.
وجاء على ذكر هذا الماء (المعسل) المؤرخ والأديب عاتق بن غيث البلادي في معجمه معالم الحجاز فقال عنه: (ماء عذب فرات على منحدر جبل كرا، مما يلي نعمان. يتوقف عنده المسافرون ويتزودون منه، ومن غرائب عصرنا، أن هذا الماء كان نبعاً ثجاجاً قبل سنوات، ولكنه اليوم سنة (1401هـ) قد جفّ فلم يعد له وجود، وقد هجره من كان يقيم عليه لبيع مائه على المسافرين).
سقى (الهدا) وذراه كل محتفل
هام ملث من الأنواء مرتجس
الأنس فيها نهار مشرق ابداً
فلست فيه على فجر ولا غلس
إذا اصطحبت به رواك مترعة
من (معسل) بمجاج النحل منبجس
ومياه المعسل مياه معروفة منذ القدم واستخدمها أهالي منطقة الهدا إضافة للشرب لعلاج كثير من الأمراض وتسهيل عملية الهضم وإزالة حصى الكلى وكانت تحمل في أوانٍ معدنية لبعض المرضى في الطائف ومكة وجدة والرياض.
وزاد من شهرة هذه المياه افتتاح الطريق الأسفلتي الرائع الذي يصل بين مكة المكرمة والطائف عبر جبل الهدا الأشم فأصبح كل من يسلك هذا الطريق يحرص على التوقف في هذه المنطقة لعدة دقائق لاحتساء جرعات من هذه المياه العذبة الباردة التي كان يبيعها عدد من أهالي منطقة الهدا من خلال الأكشاك الخشبية والمعدنية الصغيرة المنتشرة على جنبات الطريق ويقدمونها لطالبيها من العابرين والمصطافين في الأواني الفخارية المعروفة باسم (الشراب) جمع شربة بتشديد الشين وفتح الراء أو من خلال الأزيار الفخارية الكبيرة.
وقد شاع لدى الكثيرين أن مياه المعسل ناتجة عن عين جارية وقد أفادني عن حقيقة ذلك الصديق والزميل الباحث البيولوجي بالمركز الوطني لأبحاث الحياة الفطرية وإنمائها بالطائف الأستاذ أحمد البوق والذي أصبح فيما بعد مديراً للمركز : بأن مياه المعسل ليست مياه عين جارية بل هي عبارة عن كهوف صخرية عميقة في جبل الهدا تمتلئ بالمياه وتغذى طوال العام وتتسرب هذه المياه من أعالي جبل الهدا وتتجمع في حوض صخري كبير في منطقة المعسل ويزداد جريانها مع زيادة منسوب المياه والأمطار بالطائف.
وتمر هذه المياه في جريانها بعروق بعض الأشجار والشجيرات التي تستخدم في تركيب عدد من الأدوية الشعبية المعروفة لدى العطارين ومنها العرعر، الضرم، الشث، العتم، الشيع وغيرها وهو ما أكسبها طعمها العذب وفوائدها الطبية العديدة التي سبق ذكرها، أما فائض هذه المياه فيتسرب إلى أسفل الجبل في منطقة تسمى الأقران حيث تتلاشى هذه المياه بها وتغور في الأعماق.
وإبان إقامة مؤتمر القمة الإسلامي الثالث بمدينة الطائف عام 1401هـ ولمرور رؤساء وزعماء العالم العربي والإسلامي مع هذا الطريق بعد افتتاح أعماله في رحاب بيت الله العتيق، رأى المسؤولون عن تنظيم هذا الحدث الكبير إزالة تلك الأكشاك الخشبية العشوائية كونها لا تمثل مظهراً حضارياً يتماشى مع ما وصلت إليه المملكة من تطور وحضارة فتمت إزالتها كلياً إلا أن البلدية اشترطت لمن يريد معاودة هذا النشاط وبعد انقضاء أيام المؤتمر أن تكون الأكشاك الجديدة مصنوعة من الألمنيوم وواجهاتها من الزجاج مع الاعتناء بالنظافة الخاصة بأوعية الماء وإظهارها بالمظهر اللائق أمام الضيوف والمسافرين والالتزام بالأسعار السائدة وعدم المغالاة إلا أنه لم يتقدم أحد لمزاولة هذا النشاط مرة أخرى وطويت معه بذلك إحدى مظاهر المصيف القديمة التي لا يزال يذكرها كل من احتسى حسوات من مياه المعسل الباردة في طريق قدومه من مكة المكرمة أو لدى مغادرته لأرض الطائف، وزاد من محو هذا المظهر وتلاشيه ما تعرضت له هذه المياه أيضاً من تلوث كبير لتسرب مياه الصرف الصحي لكثير من المنشآت الكبيرة بالهدا من مستشفيات وفنادق وغيرها فأصبحت مياه المعسل مجرد ذكرى قديمة لأيام جميلة مضت.