كل من يقرأ عن الحضارة المصرية القديمة، مدين للعبقري الفرنسي «جان فرانسوا شامبليون»، (1790-1832م) بالكثير، فهو الذي أماط اللثام عنها، وكشف ما كان يكتنفها من غموض. وأنطق النقوش الصمَّاء على الأحجار، ومهَّد السبيل للتعرف على حضارة من أقدم الحضارات الإنسانية إن لم تكن أقدمها، وأسس لعلم جديد هو علم المصريات Egyptology. بفضله لم يعد تاريخ مصر القديم في عصورها المختلفة، المسجَّل على جدران معابدها، وفي نقوش مقابرها، وعلى أوراق البردي والتوابيت وغيرها من آثارها، التي طواها الزمن فيما طوي، بل وحياة المصريين القدماء بكل ما فيها، لم تعدّ سراً من الأسرار وضرباً من الغموض والعتمة.
لقد أزاح العبقري الشاب الغبار الذي تراكم على هذه الحضارة آلاف السنين، وكشف الستار عن أحداث، وشخصيات، وحوادث، وحياة، كانت البشرية تجهلها ولا تعلم عنها شيئاً.
ولد جان فرانسوا شامبليون في بلدة ريفية صغيرة أسمها «فيجاك»، جنوب غرب فرنسا، في 23 ديسمبر 1790م لأب يحترف بيع الكتب، وكان آخر اخوته السبعة. وللظروف السيئة التي تمر بها الأسرة، لم يستطع والداه أن يرسلاه إلى المدرسة، وقام شقيقه «جاك» بتعليمه القراءة.
وأظهر الفتى الصغير نبوغاً مبكراً، وموهبة لغوية غير عادية، فحين بلغ التاسعة من عمره كان يستطيع قراءة أعمال «هوميروس» شاعر الإلياذة والأوديسة، الأسطورتين الإغريقيتين. وقبل سن السادسة عشرة كان قد أتقن عشر لغات، وصلت إلى ثلاثة عشرة لغة مع سن العشرين، منها: اليونانية، واللاتينية، والقبطية، والعربية، والعبرية، الأيسلندية، والسريانية، والفارسية إضافة إلى الفرنسية لغته الأم.
والمرء يتساءل من أين جاء لهذا الصبي بهذه العبقرية اللغوية والقدرات غير العادية في هذا السن المبكر، فهل كان لوجوده في بيت بائع للكتب دور فيما وصل إليه من عبقرية، أم إنها الفطرة والموهبة التي لا تُعلَّل؟ انتقل شامبليون إلى «جرينوبل» جنوب شرق فرنسا، وعاصمة الألب الفرنسية، للالتحاق بالمدرسة الثانوية، وهناك اتصل بعالم الرياضيات «فورييه» (1768-1830م)، الذي كان يعمل سكرتيراً للبعثة العلمية التي رافقت الحملة الفرنسية على مصر في الفترة من 1798-1801م، وكان لفورييه دور أساسي في دفع الصبي شامبليون لدراسة علم المصريات، الذي تعلَّق خياله به، وشغف قلبه بالآثار بعد أن اطلَّع على المجموعة الخاصة لهذا العالم منها.
وتروي الحكايات أن «جان فرانسوا» عندما شاهد أوراق البردي والكتابات الهيروغليفية على ألواح الحجر في منزل «فورييه»، سأله: هل يستطيع أحد أن يقرأها؟، وحين هزَّ «فورييه» رأسه بالنفي، أعلن الصبي: «سوف أفعل ذلك، سوف أكون قادراً على فعل ذلك حين أكبُر».
كان جلَّ اهتمام «شامبليون» في البداية ينصبُّ بصورة رئيسة على اللغات الشرقية، واللغة القبطية بصورة خاصة، وكان قد قدّم بحثاً عن الأصل القبطي لأسماء الأماكن المصرية في أعمال المؤلفين اليونانيين، وقدَّم رسالته الأكاديمية، فأحيا بها الرأي القائل بأن اللغة القبطية، المكتوبة نصوصها بحروف إغريقية، ليست سوى صورة أخيرة للغة المصرية القديمة المعبَّر عنها بالرموز الهيروغليفية. وكانت قراءة اللغة القبطية هوايته المفضلة، فقرأ كل ما أمكنه العثور عليه من نصوص هذه اللغة، وصنَّفها، وكوَّن لها معجماً خاصاً بها ضخماً ومرهِقاً، استنزف طاقة الشاب المتحمس، فعندما وصل عدد صفحاته إلى 1069 صفحة، قال قولته التي سجلت عنه: «يتضخم معجمي القبطي كل يوم، أما مؤلفه (ويقصد نفسه) فيزداد نحافة.
كانت هناك محاولات قديمة لحلِّ شفرة الكتابة المصرية القديمة، ولكنها كانت محاولات محدودة الأنَفَاسِ قصيرة الأجل، فعلى الرغم من تعرض هذه الكتابة للهجران منذ القرن الرابع الميلادي، إلا أنها ظلت موضع اهتمام الأجانب نظراً لغموض رموزها. وحاول بعض الكتَّاب الإغريق تفسير الكثير من غموض تلك الكتابة، وكان الفيلسوف والنحوي «خايريموس»، الذي عهد إليه بمتحف الإسكندرية في النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، قد حاول وضع تفسير للكتابة الهيروغليفية. وبعد قرون من هذه المحاولة كانت كتابات «أثناسيوس كيرشر»، منتصف القرن السابع عشر، التي حاول فيها أيضا إيجاد تفسير لكتابات المصريين القدماء. وقد وجد «كيرشر» أن معظم الأسماء المصرية يمكن تفسيرها باللغة القبطية، واستنتج من هذه الحقيقة أن اللغة القبطية صورة من اللغة المصرية القديمة.
وهذه الفكرة هي التي أوحت إلى شامبليون وأرشدته إلى اكتشاف المفتاح المفقود لهذه الكتابة القديمة. ووجد كيرشر أيضاً أن الهيراطيقية (الخط المبسَّط أو المختصر) ليست سوى صورة مبسطة من الهيروغليفية. ورغم هذه النتائج المهمة إلَّا أن كيرشر لم يتوصل تماماً إلى فكِّ رموزها، والكشف عن أسرارها. استمرت محاولات تفسير الكتابة المصرية القديمة، إلَّا أن المجهود الجدِّي لم يبدأ إلَّا في القرن التاسع عشر، فقد كان من نتائج حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801م)، وما قام به العلماء الفرنسيون المصاحبون لها من أنشطة علمية وتوثيقية للآثار المصرية القديمة، وللكتابة المصرية القديمة، أن أصبحت مصر وآثارها القديمة، محطَّ أنظار العالم.
وكان مما كشفت عنه الحملة الفرنسية من آثار مصرية، ما عثرت عليه في رشيد وأدَّى إلى معرفة الهيروغليفية معرفة صحيحة، ونعني به حجر رشيد. واكتشف هذا الحجر «بيير فرانسوا بوشار»، أحد ضباط سلاح المهندسين بجيش الحملة الفرنسية، بالقرب من قلعة رشيد التي تبعد عن مدينة رشيد في دلتا النيل بنحو كيلومترين. وكان قد أنشأ هذه القلعة السلطان المملوكي الأشرف قايتباي في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم احتلها الفرنسيون أثناء حملتهم على مصر في يوليو 1799م، بعد أيام معدودة من معركة أبي قير، وخلال الأعمال التي قام بها الفرنسيون للقلعة وتحصينها، عثر الضابط والمهندس بالحملة الفرنسية «بوشار» على لوحة حجرية غريبة مستعملة في بناء الحائط، فأخطر القائد «مينو»، قائد الحملة الفرنسية على مصر في هذا الوقت، باكتشافه فنقل ذلك الأثر إلى الإسكندرية.
ويرجَّح أن القائمين على بناء القلعة قد جلبوه من مكان أثري واستخدموه في بناء القلعة. وهو حجر من صخر الجرانودايوريت يبلغ طوله، أو ارتفاعه، 114سم، بينما يبلغ عرضه 75.5 سم، وسمكه27.5سم. وعليه نُقِشَ نصٌ مكتوب بثلاث كتابات مختلفة، هي: الهيروغليفية، والديموطيقية واليونانية. عُرف فيما بعد أنه مرسوم ملكي أصدره الملك بطليموس الخامس عام 196 ق.م بالهيروغليفية (الكتابة المقدسة)، وبالديموطيقية (كتابة الشعب) وباللاتينية. وبعد اكتشاف الحجر، أعلنت جريدة قوات الحملة نبأ الاكتشاف، وسألت عمَّا إذا كان وجود الكتابة اللاتينية، التي يبدو أنها ترجمة للنص المصري الهيروغليفي، يمكن أن يزودنا بمفتاح لقراءة اللغة الهيروغليفية. فكانت هذه نبوءة تحققت بعد ذلك بثلاثة وعشرين عام. وبعد هزيمة الفرنسيين في معركة أبى قير البحرية (1800م) وخروجهم من مصر، وقع هذا الحجر في يد الإنجليز حيث استقر به الحال في المتحف البريطاني بلندن. وسبق شامبليون في محاولة فكَّ لغز الكتابة على هذا الحجر، محاولات لا تُنكَر، منها: محاولة «سلفستر دي ساسي « عام 1802م، وكان عالماً باللغة العربية، وقد حاول ترجمة النص الديموطيقي ظناً منه أن هناك تشابهاً بين النص الديموطيقي وخط الرقعة العربي غير أن جهوده لم تفلح إلَّا في معرفة خرطوش «بطليموس»، وكذلك الدبلوماسي السويدي «يوهان ديفيد أكربالد» الذي توصَّل إلى نفس النتيجة.
ومع بداية عام 1814 حاول عالم الطبيعة البريطاني «توماس ينج» أن يحلَّ رموز هذه اللغة من النص الهيروغليفي، وقد كان يعلم من جهود من سبقه أن الأسماء الملكية، مثل: بطليموس، لابد أن تكون موضوعة داخل خراطيش. وعلى ذلك رتَّب العلامات التي وجدت في الخرطوش كحروف تمثِّل لفظة بطليموس. وقد توصَّل إلى معرفة مجموعة الحروف غير أنه لم يتمكن من معرفة الحروف الصوتية بالضبط التي تكِّون هذا الاسم. ولذلك فإنه لمَّا أراد أن يُطبِّق الحروف الأبجدية التي استخلصها لم يمكنه أن يصل إلى أية كلمة قبطية لها نطق مماثل. فقد حاول أن يميِّز حروف اسمي بطليموس وبيرنيكي في الخراطيش. فنجح في ذلك نجاحاً جزئياً. وجاء فرانسوا شامبليون ليكمِّل المحاولة، فقد عرف شامبليون من خلال أعمال «دي ساسي» و»ينج»، أن أسماء الأعلام الإغريقية يجب أن تُكتب بحروف أبجدية مصرية، وعلى هذا الأساس بنى أبحاثه التي أخذت تسير في طريق النجاح منذ عام1821م. وأول عمل قام به شامبليون في هذا الصدد أنه بحث موضوع اختلاف الكتابات المصرية القديمة، وبرهن أن الكتابة الهيراطيقية هي اختصار للهيروغليفية. وعلى ذلك تكون الكتابة المصرية القديمة واحدة غير أنها تكتب بثلاثة أشكال أو خطوط كاللغة العربية مثلاً فهي تُكتب بالرقعة والنسخ والثلث؛ ولهذا لا بد أن توجد في الهيروغليفية كما في الديموطيقية إشارات لها قيمة صوتية وأبجدية. وقد توصل شامبليون إلى أن الكتابة التي على الآثار المصرية قبل العصر الإغريقي لم تكن حروفاً أبجدية محضة، ثم إنها لم تكن إشارات رمزية فحسب بلهي في الواقع كانت تحتوي على إشارات رمزية أو تصويرية، مثل: رع (قرص الشمس) وتحوت (القرد)، وإشارات صوتية قد تكون أحياناً مركَّبة من مقطع، مثل: مِس، وأحياناً من حروف أبجدية. وهكذا نجح شامبليون وعمره 32 عاماً في حلِّ رموز الهيروغليفية بعد أكثر من عشرين عاماً من اكتشاف الحجر. وقرأ شامبليون هذا النص الذي كتبه الكهنة عام 96ق.م تكريماً لبطليموس الخامس بخطوطه الثلاثة يعلنون فيه إنهم قرَّروا إقامة تمثال للملك في كل معبد لأنه قدَّم العطايا للمعابد المصرية. وبعد ذلك تقدَّم شامبليون في حل الرموز فوضع لها قاموساً وأجرومية.
وبعد أن وضع شامبليون النواة الأساسية لحلِّ رموز اللغة المصرية القديمة، جاء بعده علماء من مختلف الجنسيات تقدَّموا كثيراً في دراسة اللغة وعلم الآثار، ولم يقفوا عند حد دراسة الظاهر منها بل قاموا بحفائر كشفت عن كثير من النقوش والآثار الجنائزية؛ مما ساعد على فهم عصور التاريخ وحضارة المصريين. ولا تزال هذه الجهود تتقدم من يوم إلى آخر، وما زالت هذه الحفائر والأبحاث تطالعنا كل يوم بمعلومات جديدة تزيد من معرفتنا عن تاريخ مصر، وتنير الكثير من عصورها الغامضة، وتصحح الكثير من النظريات والأخطاء التي جاء بها علماء سابقون.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم