تعتبر القيم والأخلاق إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها التربية الإسلامية؛ فهي من أهم المرتكزات التي يقوم عليها البناء الحضاري، وبنيانه وتطوره، فتطور الأفراد يقاس بمقدار ما تقوم عليه قواعد السلوك والأحكام المعيارية التي يمتثلونها في سلوكياتهم وعاداتهم.
لذا نجد الإسلام ربط القيم والأخلاق بالعقائد الصحيحة، وربط الأخلاق بالعبادات فلا إيمان لمن لا خُلق له قال سبحانه في محكم تنزيله: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون) [العنكبوت: 45]؛ فالترابط واضح بين الإيمان والخلق، كذلك بين العلم والخلق.
فالأخلاق تعد أساساً من أسس المجتمع الحضاري المسلم، والتي ضَمَّنها في مقاصده العليا بوصفها إطاراً توجيهياً وإرشادياً للنشاط البشري، والتي ربطت الفرد بالمعايير والقيم الأخلاقية التي تجعله أكثر استقامة والتزاماً بالشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا؛ لأن موضوعها هو كل ما يتصل بعمل المسلم ونشاطه وما يتعلق بعلاقته بربه، وعلاقته مع نفسه، وعلاقته مع غيره، وما يحيط به من حيوان وجماد. كما تُعد قوة توازنية وتوجيهية كبيرة؛ كونها تعمل على ترشيد جهود الفرد والمجتمع. كما تساعد على بناء والتزام وتطبيق منظومة القيم والأخلاق الموجهة للسلوك، وهذا الذي جعل حضارة الإسلام تقف أمام تحديات الحضارات المادية. ومن أكثر ما يثبت مكانة الأخلاق في الإسلام وصف الله سبحانه وتعالى لنبيه عليه السلام في القرآن الكريم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]؛ فكل ما في العقيدة والفقه والسلوك والاجتماع والعمران الإسلامي يدور حول الأخلاق. وقد أكدت على ذلك أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما سُئلت عن حال الرسول صلى الله عليه وسلم وسلوكه فأجابت بقولها: «إن خلق النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (أخرجه مسلم)؛ فالآية الكريمة تؤسس للأخلاق من ناحية نظرية بوصفها لها بكلمة (عظيم)، والحديث الشريف يؤسس للجانب التطبيقي للأخلاق؛ لأن فيه إشارة إلى متابعة عمل الرسول الملاحظ بالحواس.
فالدور الذي تلعبه التربية الأخلاقية الإسلامية في سلوك الفرد والمجتمع المسلم؛ نابع من الهدف الأساسي لها وهو؛ مرضاة الله سبحانه وتعالى أولاً ثم التحلي بها ثانياً. بحيث تكون وسيلة للقضاء على الجرائم والانحرافات؛ لأن وظيفتها بناء الروح الخيرية في النفوس، وبناء الفرد الصالح لنفسه والمجتمع. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: 9). وقال سبحانه: (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(النحل: 90).
ومن هنا تظهر قيمة التربية الأخلاقية الإسلامية، فهي لا تقوم على إصلاح الفرد فقط، بل تبني مجتمعاً آمناً سليماً من النقائص؛ حيث لا يمكن تكوين أفراد أخيار ضمن مجتمع متكامل دون تأصيله بمجموعة من القيم والفضائل حتى تسوده روح الخير والتكافل. وبناء الفرد في التربية الأخلاقية الإسلامية ينعكس بالضرورة على المجتمع ككل، وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى» (أخرجه مسلم).
كذلك مما يميز الأخلاق الإسلامية ويجعلها ثابتة في النفوس، هو أنها مبنية على الاقتناع العقلي الحر بعيداً عن التلقين والإجبار؛ لأن القيم قضية تصورية وجدانية متأصلة في النفس البشرية، وعليه لابد من مراعاة قيامها على قاعدة عقلية ممزوجة بالعاطفة والوجدان حتى تتشكل بصورة صحيحة. ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (الحجرات: 4)؛ وجاءت هذه الآية حينما دعا بعض المؤمنين الرسول عليه السلام استعجالاً منهم لخروجه لهم ولو يترك ما بيده من أشغال، وبذلك فهم لا يراعون حرمة أنفسهم ولا حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسب إلى الأكثر؛ لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال موافقة لهم.
ومما استقرّ في فطرة الإنسان؛ الرغبة في أن يكون هو أحسن الناس وأفضلهم، وأن يكون محبوباً مقبولاً عندهم، وأن يظهر بمظهر حسن، وأن يكون سعيداً؛ فهذه الدوافع النفسية قد استقرت في نفس كل إنسان سويّ بغضّ النظر عن دينه ولغته وبلده ولونه، لكن الناس قد يسلكون مسالك مختلفة وطرقاً متعددة للوصول إلى هذه الغايات، ولن تتحقق هذه الدوافع الخيرة في الإنسان إلا بأمرين لابد منهما معاً هما: الغاية الصحيحة، والطريق الصحيحة الموصلة إلى تلك الغاية، ثم لا بد من بذل الجهد والسعي إلى تلك الغاية عَبْر تلك الطريق. والذي هو: الخلق الفاضل المنبثق عن الإيمان بالله عز وجل (مَن عَمِل صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤمِن فَلَنُحْيِيَنَّه حَيَاةً طَيِّبَةً). وبذلك وجب تعليم الأخلاق واكتسابها والتحلي بها والمداومة عليها حتى تصير طبعاً وجبلة.
ولاكتساب الأخلاق وسائل وطرق متنوعة في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومن ذلك: قيام مبدأ تعليم الأخلاق في الإسلام على تخطيط مجموعة من المواقف التعليمية المتنوعة للمتعلمين، وتعتمد هذه المواقف على عرض القيمة المتعلمة في صورة مشكلة قيمية تضم قيمتين متصارعتين، قد يعبر عنها بالقصص أو بالحوار والمناقشة. ويتضح ذلك في عرض الله عز وجل الفرق بين قضية الإيمان والإسلام؛ من خلال قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 14).
الآية السابقة توضح الفرق بين الإيمان والإسلام فالإيمان هو التزام المسلم في القول والفعل إلى جانب التصديق القلبي بتلك الأقوال والأفعال، بينما الإسلام فقط دون الإيمان هو التزام المسلم في الأقوال والأفعال دون التصديق القلبي، حيث وضّح الله سبحانه من خلال الآية فكرتين متعارضتين؛ حتى يوجه المسلم للاختيار السليم للقيمة الصحيحة وهي الإيمان.
كذلك من أبرز وسائل اكتساب الأخلاق: القدوة، والتي لها تأثير بالغ في التربية الأخلاقية بجوانبها المختلفة؛ فالإنسان يتعلم مما يلقى عليه من معلومات وتوجيهات ومعارف نظرية لا واقع لها، فمن خلال القدوة الحسنة والنماذج المشرفة يتشرب الفرد القيم الإيجابية بتلقائية وعفوية.
فالأخلاق الفاضلة لها أهمّيةٌ عظمى في حياة الإنسان سواءٌ بالنسبة له، أو للمجتمع الذي يعيش فيه، أهميةٌ تفوق الحاجة إلى الطعام والشراب؛ لأنه بهذه الأخلاق يعيش حياته السعيدة في الدنيا، والآخرة. وإن الإنسان بدون مكارم الأخلاق يصبح عديمَ الخير والفائدة كثيرَ الشرّ والضرر. ولمحاسن الأخلاق في الإسلام مكانةٌ فريدة لم تكن في دين من الأديان، أو منهج من المناهج، وقد بلغ بها الإسلام من المكانة أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مِن خياركم أحسنَكم أخلاقاً» وقال أيضاً: «إنّ مِن أحبِّكم إليّ أحسنَكم أخلاقاً» وقال أيضاً: «اتّقوا النار ولو بِشِقّ تَمْرَة، فإن لم تجد، فبكلمة طيِّبة». وهذه النماذج الإيمانية تؤكد لنا حقيقة الأخلاق ودورها في علو الحضارات، وإصلاح الأفراد والجماعات، وزخت مصادر الإسلام بالعديد من الوسائل والأساليب التي تعين المربي على تعليم الأخلاق واكتسابها.
الخلاصة نجدها في أن الأخلاق الإسلامية نابعة من توجيهات ربانية تتطلب تفعيل هذه الأخلاق في الواقع الإنساني؛ الذي لا يستطيع الاستمرار والثبات ومواجهة أي متغيرات بدون تَحليه بها وتطبيقه لها، وفي هذا قال الشاعر أحمد شوقي: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا