(المجالسُ مدارس) عبارةٌ طالما طرقت أذنيَّ وتداولها عقلاء الناس وفضلاؤهم وقد صدقوا وليتهم أضافوا للمجالس كلمة الرجال أو كلمة العقلاء, فليست كل المجالس مدارس, فبعضها مستنقعات ومهادم, تنشأ فيها العداوات وتترعرع فيها الشحناء وتكشر عن أنيابها البغضاء, وتهدم البيوت والأسر والعلاقات, وتتكاثر فيها الغيبة والنميمة فتتحول إلى مفالس يفلس صاحبها من الحسنات والأخلاق الطيبات, وجميل الصداقات, ورائع العلاقات والحصيفُ من يحسن اختيار جلسائه, ويغشى المجالس الحافلة بالرقي, والمزدانة بالأدب, والمتألقة بأخلاق مرتاديها وهي بفضل الله كثيرة في مجتمعنا, حيث مجالس العلماء والصالحين والمثقفين وأهل الرأي والأدب وذوي الخبرة من كبار السن الفضلاء, إذ ما على الشخص إلا أن يتنقل بين أفيائها وأفنانها ويقطف ما يُشبع نهمه ويُروي عطشه ويُثري فكره ويرتقي بشخصه, وينعكس على خلقه وتعامله في الحياة التي تحتاج منه الاستفادة ممن رفعهم الله عليه درجة, كما قال الله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} ومثل هذه الفئة الراقية من الجلساء وخاصةً كبار السن يختصرون لجليسهم المسافة في الحياة مما مرُّوا به من تجارب, وواجهتهم من عقبات استطاعوا تجاوزها بعد عون الله واستمروا يعمرون الأرض ويخدمون الوطن, ويربون الرجال ويزرعون الفضائل, ثم أقعدهم كبر سنهم عن مواصلة مشوار البناء الحسي منتقلين إلى البناء المعنوي من خلال التوجيه والإرشاد والنصح والمشورة, فهم مناجم حكمة ويحتاجون التقدير والإكبار والإجلال من جلسائهم, وهو ما جاء به التوجيه النبوي الكريم حيث قال نبينا صلى الله عليه وسلم» إنَّ من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم...» كما أنَّ المجالسة لا تقتصر على المجالسة الحسية فقد يكون الجليسُ كتابًا تنهل منه وتأنس به وتبحر مع حروفه وما فيه من علومٍ ومعارف وما سُطِّر فيه من خبراتٍ وفوائد وفرائد قال شاعر الحكمة المتنبي:
أعزُّ مكانٍ في الدجى سرج سابحٍ
وخير جليسٍ في الزمان كتاب
وأعظم كتاب يستحق هذه الخيرية الواردة في بيت المتنبي هو كتاب الله الحافل بكل خيرٍ ونفعٍ وبركةٍ, فهو النورُ وهو الهدى, والشفاء, وقصصه أحسن القصص, ويكفي أنه كلام رب العالمين {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا}، ثم تليه الكتب التي وصفها كلثوم العتابي في شعره الرائع حيث قال:
لنا ندماء ما نمل حديثهم
أمينون مأمونًا غيبًا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى
ورأيًا وتأديبًا وأمرًا مسددا
بلا علةٍ تخشى ولا خوف ريبةٍ
ولا نتقي منهم بنانًا ولا يدا
فإنْ قلتُ هم أحيا فلستُ بكاذبٍ
وإنْ قلتُ هم موتى فلستُ مفندا
وفي ظل الثورة المعلوماتية التي نعيشها وتعدد وسائل التواصل الاجتماعي أصبح الجليسُ هاتفًا متنقلًا أو جهازًا لوحيًّا أو حاسوبيًّا نقرأ من خلالها حروفًا متنوعة المشارب لشخصيات مختلفة الثقافات والعقول والأذواق تنوعت أقلام أصحابها فمنها الصالح ومنها دون ذلك, وهنا يتبين الحكيم من سواه حيث قيل : اختيار المرء قطعةٌ من عقله وما أجمل القارئ الذي يختار جليسًا ينفعه ويرفعه وينمي ذائقته ويبتعد كل جليسٍ يلوث قلبه وعقله.