الرياض- خاص بـ«الجزيرة»:
لا تزال فئام من الناس تمارس السوداوية في حياتهم اليومية، حيث ينظرون إلى الواقع والمستقبل نظرة سوداوية متشائمة، وهذا خلاف المنهج النبوي الذي يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا»، وهي رسالة صريحة واضحة عن معالم الدين الإسلامي الحنيف الذي يدعو إلى التفاؤل، والبعد عن التشاؤم والنظرة السوداوية القاتمة.
وتؤكد الدراسات العلمية أن النظرة السوداوية المتشائمة تجلب الكآبة والأحزان، والألم ليس لأصحابها فقط، إنما يؤثرون على المحيطين بهم، وربما تؤدي إلى أمراض جسدية ونفسية لدى الإنسان، لأن نظرته السوداوية لا ترى البهجة وعوامل الفرح والسرور في الحياة.
«الجزيرة» التقت مجموعة من أصحاب الفضيلة ليتحدثوا حول ذلك، وكيفية حماية المجتمع وأفراده من تلك العينة السوداوية، فماذا قالوا؟
التشاؤم والفأل
يبين الدكتور محمد بن سعد الحنين الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، أن التشاؤم والتفاؤل من الظواهر السلوكية للأفراد على اختلاف طبائعها، وقد أخذت حيزاً من الدراسات البحثية لما لها من أثر خطير على المجتمعات البشرية.
وقد حدد مفهوم التشاؤم بعض الدارسين بأنه: الميل إلى توقع الضرر وأسوأ النتائج في كل أمر، والنظر إلى الجانب الأسود من الأشياء، كما تعني الاعتقاد بأن العالم القائم هو أسوأ ما يمكن، وأن الشر في الحياة يفوق الخير، أما التفاؤل فهو ضد هذا المعنى: وبضدها تتبين الأشياء.
وأما التشاؤم عند علماء النفس فهو يعد حالة مرضية نفسية ملازمة للشخص مدى الحياة فيكون المتشائم ذا تركيز مقاوم امتداد العمر على الجوانب السلبية للحياة مع الإقلال من شأن الجوانب الإيجابية أو المتفائلة أو إنكارها.
ولقد عني القرآن والسنة ببيان هذا السلوك -التشاؤم والفأل- بوفرة من النصوص التي أوضحت حقيقة كل منهما، وحكمه وعلاجه؛ لما في ذلك من بالغ الأهمية، فحذر القرآن من التشاؤم بأساليب مختلفة، وجاءت السنة مبينة النهي عنه، وآمرة بأن تكون حياة الإنسان مبنية عن الفأل فقد بيِّن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحب الفأل: قيل يا رسول الله: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة»، وقد جاءت هذه الجملة في سياق العموم فهي مستصحبة في كل حال، مهما، بلغ الأمر، واشتد الخطب من نوائب الدهر.
ويضيف د.الحنين قائلاً: والصور البيانية للتفاؤل في القرآن متعددة الأوجه في الإعجاز، فمن تلك السور سورة الطلاق إذ تطرقت إلى مشكلة أسرية بالغة الأسى حتى انتهت بانفصال الزوجين سيقت تبين أحكام الطلاق، بيد أنها تغرس روح الأمل والتفاؤل فيمن نزلت بهم هذه البلية من خلال سياق هذه الآيات: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا .
والتفاؤل موافق للغريزة البشرية؛ ولذا تميل إليه المجتمعات الراشدة وتسعى لاستجلابه لما يتحقق به من سعادة النفوس، جاء في مفتاح دار السعادة: وليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يلائمها ويوافقها مما ينفعها، وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيراً وتفاؤلاً؛ فيسمون اللديغ: سليمًا باسم السلامة وتطيرًا من اسم السقم ويسمون العطشان: ناهلاً: أي سنهل، والنهل الشرب؛ تفاؤلاً باسم الري، ويسمون الفلاة مفازة، أي: منجاة تفاؤلاً بالفوز والنجاة ولم يسموها مهلكة؛ لأجل الطيرة وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم فمنهم من سموه بأسماء تفاؤلاً، وإذا تقرر أن التشاؤم حالة مرضية، مخالفة للشرع، فإن المتشاؤم الذي ابتلي بهذا الداء يجب الحذر منه بأن تنتقل عدواه لجليسه، أي كان هذا المتشاؤم:قريباً، أو صديقاً، وقد يكون المبتلى من أهل العلم والأدب والمعرفة؛ لأن الإصابة به واقعة محتملة للإنسان، يقول ابن رشيق في العمدة: وكان ابن الرومي كثير الطيرة:ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيراً بسوء ما يراه ويسمعه، ويقول أبو القاسم الزجاجى: لم أر أشد تطيرًا من ابن الرومى الشاعر وكان قد تجاوز الحد في ذلك فعاتبته يومًا على ذلك فقال:
ياأبا القاسم «الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان». يعلق ابن القيم -رحمه الله-على جواب ابن الرومي: وهذا جواب من استحكمت علته فعجز عنها فلا يلتفت إلى علم ولا إلى ناصح، وهذه حال من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه بل تعرى منه، ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع والمصائب به أعلق والمحن له ألزم بمنزلة صاحب الدمل والقرحة الذي يهدي إلى قرحته كل مؤذ وكل مصادم فلا يكاد يصدم من جسده أو يصاب غيرها، ثم يبين ما على الجليس فعله من ما وقع سماعه من المتشاؤم: وصاحب الهمة والعزيمة: لا يتقيد بذلك -يعني ما يسمع من التشاؤم: ولا يصرف إليه همته، وإذا سمع ما يسره استبشر وقوي رجاؤه وحسن ظنه، وحمد الله وسأله إتمامه واستعان به على حصوله، وإذا سمع ما يسوءه: استعاذ بالله ووثق به وتوكل عليه ولجأ إليه والتجأ إلى التوحيد، وقال (اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك).
خبراء التعاسة
ويقول الأستاذ محمد بن سعد العوشن الرئيس التنفيذي لوقف الحبيب: من تأمل حال الشريعة الإسلامية وجد أنها ربطت الفرح بإنجاز الطاعات والفراغ منها، فكان عيد الفطر بعد الانتهاء من صيام شهر رمضان وقيامه، وكان عيد الأضحى بعد انتهاء مناسك الحج، وأعمال عشر ذي الحجة؛ فالفرح بالطاعات والنجاحات التي هي فضل من الله، ومنة منه، فرح محمود غير مذموم، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ .
وفي زماننا هذا فإننا أحوج ما نكون إلى التفاؤل، ونشر الأخبار السارة المبهجة، والابتعاد عن مساعي «التدمير الذاتي للفرح» التي يسلكها البعض تحت ذريعة الحدس وسوء الظنون!، موضحاً أن التدمير الذاتي الذي يمارسه البعض يجعل الواحد لا يرى الفرصة إلا استدراجاً، وإذا رأى الفرح على الوجوه ردد «الله يستر من آخر هالفرحة»!، فالتشاؤم لديه أصل ثابت، ودليله: قلبه القلق غير المطمئن،
وإذا سمع هذا «المتشائم» أو شاهد نجاحاً أو روي له؛ بادر على الفور بالتدمير ومنع نسمات الفرح من التسلل للنفوس، من خلال التشكيك في الأمر أو في صحة المعلومات، ودقتها، فلديه شعور داخلي دائم بعدم استحقاق النجاح، وإن ثبت له صحة المعلومات، كان تعليقه أن العبرة ليست بالأرقام والنتائج الظاهرة، بل بمدى تحقق الأثر في الميدان، وإن ثبت له الأثر فعلياً، رأيته غير مسرور به، تحت ذريعة العمل المفضول، والعمل الفاضل، فتراه يشير إلى أن هذا العمل لو كان في موضع كذا، أو موجهًا لمجال كذا لكان أعظم أجراً وأكثر نفعاً!، وربما نقل الحديث إلى موضع آخر «أن العمل الصواب ليس هو المهم، بل الأهم أن تكون النوايا صادقة، فالنوايا هي مربط الفرس، وأنه ربّ عمل كثير أحبطته نية صاحبه!، وهكذا، كلما أجبت له عن «وهم»؛ انتقل بك إلى آخر، فمهمّته التي يكافح من أجلها، وسلوكه الاعتيادي أن يخالف السائد من خلال قتل البسمة، ووأد الفرحة، وتكسير المجاديف، والوقوف في وجه كل خبر سار، مفترضاً الخطأ، أو النوايا غير الحسنة في الجهات والأشخاص، تحت مسميات براقة كـ«الوعي» و«العمق»و«الحذر» !، وغالباً ما يكون هؤلاء «المُدمِّرون» على قارعة الطريق، بطّالون، دون عمل جاد وفاعل، تقتصر مهمتهم على نقد المارين والعابرين، يتجاوزهم الناس وهم ما زالوا على «مركاز» التشاؤم جالسين.
ويؤكد محمد العوشن أن الاعتراف بالنجاحات، والفرح بها، والاحتفاء بها وبأهلها هو الأصل الذي لا محيد عنه؛ فواجبنا أن نفرح، ونظهر الفرح بكل نجاح يتم تحقيقه، ونبارك للناجحين، ونحثهم على الاستمرار، وتأتي المراجعات والملاحظات تاليًا، فالذكاء العاطفي يجعلنا نلبس لكل حالة لبوسها، ونعطي كل وقت حقه ومستحقه.
عادة جاهلية
ويؤكد الشيخ سعود بن زيد المانع خطيب جامع الأمير سلمان بمحافظة الدلم: إن التشاؤم والنظرة السوداوية للحياة أو الأشخاص أو أي شيءٍ من المخلوقات منهي عنه شرعًا؛ لأن الأمور تجري بقدرة الله تعالى وقضائه وقدره، والإسلام جاء بهدم هذه العادة الجاهلية والتحذير منها؛ كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا عَدْوَى وَلا صَفَرَ وَلا هَامَةَ»، وفي رواية أخرى للبخاري: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَاصَفَرَ».
وعن الحكمة مِن منع التشاؤم أنَّ في هذا التشاؤم سوء ظن بالله سبحانه وتعالى، وإبطاء الهمم عن العمل، وتشتت القلب بالقلق والأوهام، فيميت في المرء روح الأمل والعمل، ويدبُّ فيه اليأسُ، فتضعف الإرادة والعزيمة لديه، وربما نَزَل بالشخص بسبب هذا التشاؤم المكروه الذي اعتقده بعينه على سبيل العقوبة له على اعتقاده الفاسد.
أما عن التفاؤل فإنه من الأمور الحسنة التي لا مانع منها شرعًا؛ قال: «لا عدوى ولا طِيَرَة، ويعجبني الفأل»، قالوا: وما الفأل. قال:»كلمة طيبة». الفأل الذي يبعث في النفس الرجاء في عطاء الله عز وجل، وحسن الظن به وتيسيره، فيتجدَّد به أمل الشخص في نجاح مقصوده، ويُقَوِّى عزمه، ويحمله تفاؤله على صدق الاستعانة بالله والتوكل عليه، وهو القائل في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي»، وقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: «وأما الفأل: فقد فَسَّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة».
ويضيف الشيخ سعود المانع قائلاً: ومما يبعد النظرة السوداوية والتشاؤم
تذكيرالناس بحسن الظن بالله تعالى، والتأكيد على الإيمان بالقضاء والقدر وقوة التوكل عليه (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).