حامد أحمد الشريف
لا يمكن الحديث عن مجموعة «سقف مستعار» من دون الاستشهاد بنماذجَ من هذه المجموعة توصل الفكرةَ التي نتحدّث عنها، وأعني بذلك انتهاج الكاتب مبدأً جديدًا في تدوين القصّة، يذهب باتّجاه تركِ النصوص دون معانٍ محدَّدةٍ أو رسائلَ واضحةٍ، وإتاحتِها للتأويل والتفسير من دون قيد أو شرط، وإعلانِ ذلك صراحةً من خلال شواهدَ سبق أن ذكرْتُها في مقالي السابق المعنون بـ «سقف مستعار بين الحفظ والفهم». اليوم سأقوم باستعراض بعض هذه النصوص التي أطلقت عليها اسم «حوائط» انسجامًا مع مراد الكاتب من مجموعته، ويمكن توظيفها في هذا السياق؛ كحوائط «الحذاء» التي تُظهر لنا قدرةَ الكاتب على اللّعب بالرمزيّة، وتوظيفِها التوظيفَ الأمثل، وإيصالِ رسائله من خلالها. وهو الجانبُ المشرق للرمزيّة التي يراها البعض تيمةً للنصوص الإبداعيّة الحديثة، وإن كان مَن يحسنون استخدامَها وتوظيفَها قلّة. هذه الحوائط يمكننا تسقيفُها بالقول: إنّنا أصبحنا ننشغل بتوافه الأمور عن عظائمها. ومردّ ذلك بالطبع إلى الترف ورغد العيش الذي يُبقينا ندور في فلك الصغائر، ويُعلي من شأنها، ويُصيبنا بما يُعرف في علم النفس بـ «Concept Creep» أو «تمدُّد حدود المعاناة»؛ بينما الضنك والشدّة يجعلاننا نستشرف المستقبل جيّدًا ويبصِّرانِنا بالطريقة المثلى للنجاة بأنفسنا. نرى ذلك واضحًا جليًّا في قوله: «ثمّ نسي قدميه تمامًا، ونسي الرمل حين صار طريقُ الإياب كلّ تفكيره».
وفي حوائط «مصباح يجلب العتمة» نجد الكاتب يطرح فكرة الجنون الذي يُعَدُّ الحلقة الأهمّ في الإبداع الإنساني؛ فالمبدع - كما هو معلوم - لا يؤمن بالمحدِّدات من أي نوع، ولا يستسلم لها، وقد يزدريها، وغالبًا ما يكون في حالة صراع وجوديّ معها، مخالفًا بذلك السائرَ العام، ومستهدفًا ثوابتَ البشر، وهو يُعَدُّ في نظر الواقعيّين خارجًا على قوانين المجتمع، ولا تتقبّله شريحة كبيرة منهم. أخبرَنا النصّ بكلّ ذلك دون تصريح، من خلال طرحه فكرةً غير مسبوقة، تتلخّص في تعتيم الكون بدل إضاءته، أتى بها شخص وُسم بسببها بالجنون، وزُجَّ به في مصحّة المجانين، رغم أنّ ما قاله يُعتبَر غايةً في الأهمّيّة، ويستحقّ التوقّف والتأمّل، وقد ينسحب على مجمل حياتنا، إذ إنّنا - للأسف - نُكيِّف دائمًا الظروف بما نعتقد خطأً أنّه يناسبنا؛ في وقت، خُلقت هذه الثنائيّات المتضادّة كي نعيشها كما هي؛ فالليل والنهار، والصيف والشتاء، والعلم والجهل، والصحّة والمرض، والغناء والفقر، هي من ضروريّات الحياة التي لا تستقيم إلّا بها، ومحاولتنا تغييرها أو السعي لاستئثار أحدها بالآخر سيُفسد الحياة. كانت الفكرة رغم شطحاتها الواضحة، منطقيّة، منطقيّة جدًا، ويمكن استخدامها سقفًا مستعارًا لهذا النص.
في موضع آخر، ومع حوائط «نجمة»، نقف على فلسفةٍ جديدٍة للكاتب، يتمثّل سقفُها المستعار في مقاربتها بين المواقع، وقيمة الأشياء، وظروف استخدامها؛ وهو الخطأ الفادح الذي غالبًا ما نقع فيه عندما نقيِّم الأشياء اعتمادًا على مواقعها، ونعتمدها كآليّةِ فرزٍ موثوقة دائمًا، كتوظيفنا السيّئ لنجوم السماء التي يُسنَد إليها الكثير من الأحداث الكونيّة العظيمة، وأقلُّها ما نعلمه يقينًا من تزيينها السماء، واتّخاذها وسيلة يُهتدى بها، وتأثيرِها على سبل عيشنا ومعاشنا؛ في وقت جعلناها زرًّا منسيًّا على جهاز الهاتف، أو رتبةً عسكريّةً تتوسّد كتِفَ رجلٍ قد لا يستحقُّها؛ واعتمدنا عليها في تصنيفنا لأنزال لا ترتقي إلى القيمة التي تمثّلها النجوم. وكأنّ المؤلِّف، بذكائه الملاحَظ، يريد أن يخبرنا بطريقة غير مباشرة أنّ القيمة الحقيقيّة للإنسان، وللأشياء قاطبةً، تنطلق من ذواتها، ولا علاقة للمواقع بها؛ وأنّ علينا الانطلاق في تعاملاتنا في ما بيننا من ذواتنا الباقية وليس من مواقعنا المتغيّرة... هذه الرسالة العظيمة التي تضمّنها هذا النصّ، برمزيّته الإيجابيّة الرائعة، توقفنا بصدق على القيمة الحقيقيّة للكتابات الإبداعيّة، مقارنةً بفوضى الكلام التي نصطدم بها في كلّ حين.
الآن، ماذا لو كان الكلام يتحشّر بالفعل في مقبس الهاتف القديم، ويتراكم مع مرور الزمن، ويظلُّ كامنًا ينتظر فتحَ العلب المخفيّة في الجدار، لينفجرَ ويلطّخَ أسماعنا بما لا نحب سماعه من أحاديثنا المنسيّة؟! ماذا لو كان يتكدّس أيضًا، أو يتجمّد على سلكه النحاسيّ العتيق، ويظل على حاله ينتظر إذابته حتّى يتساقط على الأرض، ويُظهرَ لنا السوء الذي تفوّهت به أفواهُنا ولم يعلم به غيرنا؟! كانت فكرةً خارقةً بالفعل، أتى بها طفل صغير ظنّ أنّ مقابسَ الهاتف هي الآذان التي يسمع من خلالها الجدار. لم يكن من سقف مستعار يليق بهذا الحائط الإبداعيّ الساخر «هاتف ثابت» سوى العودةِ إلى ثقافتنا الدينيّة المتعلّقة بنعمة الستر، تلك النعمة التي لا يمكن مضاهاتها بأيِّ نعمة أخرى؛ ولعلّ ذلك ما جعلها أوّل عقوبة ينالها أبو البشر سيّدنا آدم - عليه السلام - عند استجابته لوسوسة الشيطان في قوله تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}، فكرة مجنونة كهذه استطاع كاتبنا أن يأتيَ بها ويصنعَ منها حوائطَ حاملةً للمعاني، دون تسقيفها، أرعبت الأب والأم، وأرعبتنا نحن كذلك، وأطلعتنا على حقيقة أنّ الأخطاء تُضعِف الإنسان وتخيفه كثيرًا، حتّى وإن كان ظهورُها وشيوعُها شبهَ مستحيل.
في حوائط «الجراد» نجد الكاتب يعود بنا مرّة أخرى إلى كلاسيكيّات القصّة القصيرة الإبداعيّة، وواقعيّتها؛ وهو يكتبها بطريقة رائعة، تجمع بين المباشرة الإيجابيّة، والعمق المثري، والصور الشاعريّة الجميلة، والحياة التي تشعر بها مع كلّ مفردة من مفردات النصّ تخاطب وجدانك، والبناء السرديّ المتراكم، والوصف المتّزن دون تقتير أو إتخام، والاختزال أو التكثيف في أبهى صوره! وكأنّه يريد بذلك إفهامنا أنّ سياسة الأَسقف المستعارة التي اتّبعها، وكذلك الإيغال في الرمزيّة، وتجاوزها في بعض النصوص للحدود، لم تكن نقصًا في أدواته، أو عجزًا، وإنّما خيارًا متعمّدًا، يملك الخروج منه متى ما أراد. كما ظهر في هذه المجموعة الإبداعيّة التي طوّع فيها الكاتب القصّة، وكتبها بطريقته، دون أن تفقد جمالها ورونقها وعذوبتها، واحتال علينا بطريقته لتمريرها؛ بل إنّه استحضرَ نظريّة الفيلسوف والناقد الفرنسيّ رولان بارت، وقدّمها لنا من جهته كمؤلّف، طالبًا منّا النظر إلى كتابه بمعزل عنه تمامًا، وأعاننا على ذلك بتقديم كلّ ما لديه ككاتب في هذا الكتاب، فلم نعد بحاجة لاستحضار اسمه وقيمته الأدبيّة وتوظيفهما لتمرير كتاباته، كما يحدث عادة من البعض، وهذا بطبيعة الحال يُحسَب للمؤلف، ويُظهر ذكاءه وواقعيّته واعتداده بقلمه.
في حوائط «محو» تتجلّى قدرة المؤلِّف على الدفاع عن فكرته، من خلال صنع حوائط غير مسقوفة، تاركًا القارئ يختار سقفًا يناسبه ويناسبها. في هذه القصّة قدّم لنا ملحمة فكريّة تتحدّث عن الطريقة المثلى لقراءة نصوصه المجمّعة، وكيفيّة إنزالها على واقعنا والاستفادة منها، من خلال استنطاق وأنسنة الممحاة، وكتابة سيرتها الغيريّة التخيُّليَّة بطريقة واقعيّة تفضح سلوك المجتمع بكلّ فئاته؛ وهو ما يحدث غالبًا، فنحن في معظم الأحيان لا ننفصل عن ذواتنا عند حديثنا عن الغير، ونُكسب الآخرين شيئًا من صفاتنا، أو نُصفّي حساباتنا معهم، أو مع مجتمعنا، انطلاقًا من حواراتنا ومشاعرِنا. كلّ ذلك فضحه تصوُّرُ حال ممحاة بعد خروج التلامذة وبقائها وحدها.
حدَثُ الممحاة فضحَ بشكل صارخ وفَجٍّ مكوّنات المجتمع، وأظهرَ سلبيّاتِهم وإيجابيّاتِهم وما هو متوقَّع منهم مستقبلًا؛ وهي الصورة الحقيقيّة التي ينبغي علينا الاعتراف بها، والتعامل مع المجتمع على أساسها، إذ إنّ المعلِّم بذكائه المعهود، فضح سرائر تلامذته، وعرف أنماطَ تفكيرِهم وإيدلوجياّتِهم، وقدرتَهم على ممارسة الحياة بانفتاح أو انغلاق، وعرّاهم أمام أنفسهم. وقد أشار إلى ذلك صراحة عند ذكره في ختام نصّه أنّ شريحةً كبيرةً منهم أجابت بأنّ الممحاة جماد. أراد من ذلك إخبارنا أنّ هؤلاء المؤدلَجين يمثِّلون - للأسف - الشريحة الأكبر في كلّ المجتمعات؛ نراهم يُغلقون عقولهم، ويذهبون مباشرة إلى نتائجَ متشابهةٍ جُبلوا عليها، ويُكثرُ سوادَهم انضمامُ شريحةٍ أخرى إليهم ممّن ليس لديهم توجُّهات معيّنة سوى أنّهم كسالى يبحثون عن ذرائعَ لكسلهم، أو من المشغولين بقوت يومهم وحاجاتهم الحياتيّة الضروريّة، فلا يرون فائدةً تذكر من إطلاق العنان لفكرهم، ومحاولة تفكيك المشاهد وفهمها، والانطلاق منها لفهم الحياة بشكل أكبر...
حوائطُ الممحاة الإبداعيّة هي عامل غير عاديّ، نستطيع من خلاله الوقوف على مجتمعنا، وفهم تركيبته البشريّة من كلّ النواحي؛ فهؤلاء الطلاب سيخرجون إلى المجتمع بالتركيبة النفسيّة ذاتِها التي اكتشفها معلم الإنشاء العبقريّ، ولن يختلفوا كثيرًا من حيث النِسب، وإن تنقّلوا بين الشرائح تبعًا لما يعترضهم مستقبلًا، دون اقترابهم من الفئة النخبويّة التي تتشكّل مبكِّرًا، والتي تستطيع غالبًا الحفاظ عل مكوِّناتها؛ ويحصل التسرُّب منها إلى هامش الحياة، عندما يتّجه بعض هؤلاء النوابغ نحو الإدمان أو الانتحار أو الجنون، أو استتفاه الحياة وطلاق التفكير فيها. هذا النصّ يمثّل القدرة الحقيقيّة لذا الكاتب المبدع على الاختزال والتكثيف، وتضمين نصّه رسالةً عميقة قد تحتاج مجلّدات لسردِها والتحدُّث عنها؛ إنّه من النصوص التي تستحقّ أن تكونَ أنموذجًا للقصّة القصيرة الإبداعيّة الحديثة، بكل اشتراطاتها ومكوِّناتها.
- في حوائط «السمّاعة» نجد المؤلِّف، بإرادةٍ حقيقية وعن سابق علم، يقدّم لنا نصًّا ممتعًا، امتزج فيه الواقع بالخيال، وتماهَياً مع بعضهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر؛ لقد جعلنا نقرأ نصًّا كلاسيكيًّا واقعيًّا بصبغة خياليّة، وبسردٍ مباشر جميل، وعمقٍ لذيذ، يمكن النظر إليه على أنّه فنتازيا تخيّليّة لا علاقة لها بالواقع؛ كما يمكن النظر إليه على أنّه واقعيّ لا يمتّ إلى الفنتازيا بصلة. وأظنّه بهذه الطريقة أراد الإمعان في إطلاعنا على قدراته وإمكانيّاته القصصيّة، وما يمكن أن يأتيَ به لإيصال فكرته الأصيلة حول الأسقف المستعارة التخيّليّة التي أجاد صناعتها مع كلّ النصوص؛ وكان قادرًا أن يحدّثَنا عن هذه التجربة، ويطلعَنا على شيء من خباياها مع كلِّ نص من نصوصه.
وجدناه في هذا النصّ يضعنا أمام خيار صنع سقف يتحدّث عن الانطواء العصريّ استجابةً للتقنيّة الحديثة، وانعكاس هذا الانطواء على مجمل حياتنا؛ كونه يُفقدنا التفريغ الدائم لأحاسيسنا ومشاعرنا، ويمنعنا من بثِّ خلجات نفوسنا، والتخلُّص من الصراعات التي قد تدور داخل أدمغتنا، وكيف أنّها تثقل رؤوسنا وقد تقضي علينا. بالطبع هذه حقيقة لا يمكن الهروب منها، فأطبّاء علم النفس ما فتئوا يكرّرون أنّ العزلةَ والانطواء هما أكبرُ داعمٍ للأمراض النفسيّة التي قد تظهر على هيئة أعراض حسيّة. في حين أنّنا متى استطعنا التحدُّث مع الآخرين، ومارسنا حياتنا بشكل طبيعيّ، يمكننا أن نتخلّص من كلّ هذه العوارض المرضيّة... الجميل هنا هو توظيف القصّة الإبداعيّة لإيصال هذه الرسالة التوعويّة من دون الإخلال باشتراطاتها التي لا تقبل الوعظ أو النصح والإرشاد المباشر. لكنّ الكاتب برهن لنا أنّ الرمزيّة مطلبٌ، إذ نستطيع بواسطتها تخليص القصّة من قيودها، واستخدامها كسلاح قويّ للتغيير؛ فالرمزيّة المقنَّنة بشواهدها المحسوسة، تسهم في اكتناز القصّة بالمعاني، وتمنحها مساحةً أكبر للحديث عن موضوعات تحتاج محاور كثيرة لطَرقها.
حوائط «معضلة الكتابة عن رجل يجمع العطور»، لا أظنها - بصفتي قارئًا - معضلة؛ وأظن أنّ المؤلف لم يكن صادقًا في تبرُّمه من الحكاية، والإيحاء بأنّه متورِّط في كتابتها على هذا النحو. فلو كان ما يقوله صحيحًا لاستبقاها في جرابه، ولما سمع بها أحدٌ سواه. لكنّه وقد أخرجها إلى العلن، ونشرها ضمن هذا الكتاب، فهي يقينًا تندرج ضمن الأسقف المستعارة، ويَعرف قيمتها جيّدًا. على أيّة حال، إنّ هذه القصّة تسقط بالفعل إذا نظرنا إليها من زاوية الرجل المهووس بالعطور، بسبب ظهور القاصّ، وتحريف السرد عن مساره، وذهابه باتّجاه تبرير الأخطاء التي وقع فيها بصفته ساردًا، أو ما يعتقدُ أنّها أخطاء، ومحاولة تمرير نصّه بهذه الطريقة المزعجة التي - في ظنّي - تجعل النصَّ غير مقبولٍ كليًّا، حتّى لو تجاوزنا جنس القصّة؛ فالكاتب ليس من حقه التعليق على نصوصه أو تبرير وتمرير أفكاره مطلقًا، كون النصوص لا تُبرَّر ولا تُقرأ خارج متنها.
ولكن، هل بالفعل هذا ما أراده الكاتب؟! في ظنّي أنّه حاول خداعنا بهذه الكتابة غير المقبولة؛ لكنّني لم أنخدع، لثقتي بقلمه وفكره، وتنزيهه عن الوقوع في هذا المنزلق، استنادًا إلى النصوص التي سردها في هذا الكتاب وعبّرت عن ذلك التفوُّق الكتابيّ والسموّ الفكريّ اللّذين يمتلكهما. لذلك، عندما أعدت النظر في العنوان، اكتشفت الخدعة التي حاول من خلالها الضحك علينا؛ فالعنوان لا يتحدّث عن «جامع القناني» أو «مهووس العطور»، وإلّا لاستخدمه في العنوان بهذه الصياغة أو قريبًا منها، سيّما وأنّه درج على استخدام عناوين مباشرة وصريحة في أغلب نصوصه؛ وكأنّه يريد أن يحاجّنا بذلك إذا انطلت علينا حيلته. ذلك ما جعلني أوقن أنّ السرّ يكمن في العنوان الذي يتحدث عن الكاتب وليس عن الجامع، وهناك فرقٌ كبيرٌ بينهما؛ وهو ما أراده المؤلِّف عندما أشغلنا في أغلب سرده بقوارير العطر وأماكن وضعها، وجعلنا نعتقد أنّها الحكاية، بينما هو كان يتحدّث عن الكتابة القصصيّة، وانشغال البعض بتبرير كتابته داخل النصّ أو بعد نشرها، وإنكاره هذا الأمر وإظهار أنّ القصّة تسقط أمام تصرُّف مماثل؛ وما نشرُه لهذه القصّة إلّا للدلالة على هذا السقوط. لذلك، أرى السقف المستعار الذي ينقد هذه الحوائط، يتمحور حول الضعف الشديد الذي يعتري بعض كُتّاب القصّة عند نشرهم الغثَّ من كتاباتهم بدون حرج، رغم ما يعتريه من ضعف ظاهر، وإخلال باشتراطات القصّة.
- في حوائط «سكّر نبات» نكتشف أنّ متعة بعض الحوائط هي بعدم تسقيفها، وأنّنا لسنا بحاجة دائمة للسقف حتّى نشعر بالجمال؛ فالحدائق جميلة بدون سقف، بل إنّ جمالها سيضيع لو سُقفت؛ والبحر جميل أيضًا رغم استحالة تسقيفه بالمعاني، ومتعتنا الحقيقيّة تكمن في الجلوس قبالته بصمت دون إشغال تفكيرنا بأيّ أمر، كحالنا عند استعذابنا النظر إلى وجه المحبوبة ساعاتٍ طوالٍ دون الظفر منها ولو بكلم ة. ذلك ما يجعلنا نوقن أنّ هناك أماكنَ ومواضعَ تفقد جمالها في حال سُقفت. والقصّة القصيرة ليست بدٌّ من ذلك، لكنّها بحاجة لبنّاءٍ ماهرٍ يجيد اختيار الفكرة التي تشغلك بجمالها وتفرُّدها، فلا تعود تبحث عن معانٍ تُستقى من خلالها. كذلك تحتاج لواصف متمكِّن يُجيد تشييد حوائط الكلمات بالطريقة التي تجعلك تشعر أنّ السقف قد يُفسد جمالها، أو على الأقلّ لا تشعر بحاجتك له. ذلك ما كان بالفعل في حكاية الطفلة التي وُلدت بداء السكّر، وكان عليها تكبُّد المشاقّ مبكّرًا، وتشاركت معها والدتها هذا الألم، في وقت يلهو غيرها من الأولاد ويلعبون بالأدوات نفسها التي تقيس بها ألمها.
إن هذا التنوُّع الرائع في نصوص المؤلِّف يوقفنا على المدى الذي يمكن أن نصلَ إليه في كتابة القصّة الإبداعيّة، إن فهمنا سرَّ صنعتها، فهو يتلاعب بنا كما يريد؛ وها هو الآن يخبرنا بكلّ ثقة أنّنا لسنا بحاجة للسقف دائمًا، رغم هذا الكتاب الذي بين أيدينا، والذي قوامه وغاية منتهاه سقف الحكايات. ولكنَّ ذلك لن يتأتّى إلّا لمن يستطيع الاستغناء عنه دون الإخلال بمتعة القراءة المنشودة. وحتى يتحقّق ذلك، لا بدّ أن يكون بناء الحوائط ووصفها منقطع النظير، يشغل المتتبِّع عن هذا السقف، بل يُشعرك أنّ الجمال يكمن في غياب هذا السقف.
خلاصة القول، إنّنا نقف في «سقف مستعار» أمام مصنَّف إبداعيّ يتناول القصّة بطريقة مبتكرة، بحيث تمكِّننا من كتابتها بمعزلٍ عن الاشتراطاتَ المتعارَف عليها، وأنّ الحوائط الإبداعيّة باتت علامةً كتابيّة يملك حقوقها «محمّد الراشدي».