أ.د. عبدالله ثقفان
كنت أتصفح ما كتبته الدكتورة مستورة العرابي في «شموخ النخيل» والحديث عن الوطن، وأنا في طريق عودتي من الأحساء إلى الرياض عبر القطار، حيث بدأت حديثها بقولها:
لم يقل «غيم».. ولم يشرح ثرى،
سل كتاب الرمل يحكي ما جرى،
هذه الصحراء عاشت حرة،
خيلها وعدٌ.. ونجدتها قِرى،
دوّنت تاريخ مجد شامخ،
وازدهت مسكاً وفاحت عنبراً..
ثم عَرضَت بعد هذه المقدِّمة لوحات ستاً، تحدَّثت فيها عن بلادنا من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها مروراً بالوسط كمرتكز رئيس فيه العاصمة غير ناسية (مكة والمدينة المنورة) أقول كنت ضمن الحاضرين لملتقى (جواثى) الذي تصادف انعقاده مع الاحتفال بيوم الوطن، فامتزج التراث بالجديد في مهرجان كرنفالي رعاه (نادي الأحساء الأدبي)، وأداره باقتدار وبحضور أطياف من مثقفي هذه البلاد، وكان ضمنهم الشاعرة مستورة، حيث جاءت من الطائف لتتغنى بالبلاد في الأحساء، فكان القول مناسباً، وكان المكان كذلك. أما (الأوبريت) فكان لوحة غنائية شاملة، إذ قرأت فيه الشاعرة واقع بلادنا التاريخي والسياسي والاجتماعي، بل والمكاني، مطبقة آفاقها العلمية الرحبة، وموهبتها الشعرية الفذة على لوحة شعرية برّاقة رسمتها بأنامل ذهبية، فجاءت هذه اللوحة الجميلة..
إن (شموخ النخيل) لوحة شعرية جميلة بجمال بلادنا، ولأنها كذلك، فقد قرأتها وأنا أمضي مع القطار لتمر الصورة في مخيلتي بسرعة كسرعته، وبعد المطالعة كانت قد ظهرت في مخيلتي لوحة أخرى لأجد فيها بعض الشعراء الذين تغنوا بأوطانهم، وكيف أنهم في معظم أحوالهم يعانون من ذوبان (ذواتهم) لتصبح صاغرة أمام (النحن)، وهذا ما وجدته في (شموخ النخيل) ، أقول تذكرت مباشرة كيف كان شعراء الأندلس قد تغنّوا ببلادهم، وهو ما يسميه الباحثون بشعر الطبيعة، والواقع هو شعر وطني متكامل الأركان، إذ كانت الوردة والريحة، هي جمال الأرض بمن فيها، ومن ذلك ما قاله (ابن عمار الأندلسي) في قصيدة عجيبة:
يا سائلي ما حمص إلا خاتم
أبصرت إسماعيل فيه خنصرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى
من لا تسابقه الرياح إذا جرى
لا شيء أقرأ من شفار حسامه
إن كنت شبهت الكتائب أسطرا
وجهلت معنى الجود حتى زرته
فقرأته في راحتيه مفسِّرا
وهي قصيدة طويلة..،
وقد عارضه (ابن سهيل) بقوله:
الأَرضُ قَد لَبِسَت رِداءً أَخضَرا
وَالطَلُّ يَنثُرُ في رُباها جَوهَرا
هاجَت فَخِلتُ الزَهرَ كافوراً بِها
وَحَسِبتُ فيها التُربَ مِسكاً أَذفَرا
وَكَأَنَّ سَوسَنَها يُصافِحُ وَردَها
ثَغرٌ يُقَبِّلُ مِنهُ خَدّاً أَحمَرا
وَالنَهرُ ما بَينَ الرِياضِ تَخالُهُ سَيفاً تَعَلَّقَ في نِجادٍ أَخضَرا
وقال (ابن سعيد) ذاكراً وادي الطلح:
سائل بوادي الطلح ريحَ الصَبا
هل سخّرَت لي في زمان الصِّبا
إنني أجد أن هناك وشائج في حرف الروي والقافية بين هذه الأبيات وأبيات الشاعرة مستورة، خاصة في حرف الإطلاق (الألف) الذي يجد فيه الشاعر نفساً منطلقاً انطلاق الأرض والناس على تراب الوطن - أي وطن -.
لقد مَرَّت تلك الأبيات التي أجدها تلتقي مع (شموخ النخيل) أمام ذاكرتي وأنا أرى الأرض تطوى من حولي مع سرعة القطار، فكانت قراءتي لهذا (الأوبريت) تقترب في سرعتها مع سرعة القطار، إذ تأخذ الظاهر، ولا تلج إلى العمق، ولأمثل هنا ما قاله أحد النقاد الغربيين (بثقافة عربة القطار) التي يرى راكبها كل شيء أمام ناظريه، ولكنه يمر كالصورة التي لا تظهر تفاصيلها، إلا أن منظرها يشيء بشيء من الخطوط الجميلة ولكن تفاصيلها غير واضحة أمام السرعة التي يمر عبرها الوقت، فيصل قبل أن تنتهي الصورة...
ذلكم حالي وأنا في العربة مع (أوبريت شموخ النخيل) الذي قرأته سريعاً ولم أحضره فعلاً يوم التّغني به، إذ عدت (للرياض) وقد أفرز هذا الملتقى - شأن أي ملتقى- بعض المبدعين، وكان منهم الشاعرة الدكتورة مستورة بنت مسفر العرابي...
فاصلة:
ما أجمل الشعر الذي يتغنى بالوطن ...