سهام القحطاني
الأشجار الباسقة لا تُخفيها شروق شمس ولا ظلام ليل هكذا سيظل غازي القصيبي في ذاكرة التاريخ شجرة باسقة مقاومة للاختفاء ء والاختباء.
تاريخ كل شخصية هو مجموع من الحكايات، تلك الحكايات هي التي تُؤسس قيمة الشخصية في ذاكرة التاريخ،فنحن نمضي و تبقى حكاياتنا أثرا لنا و مآثرا لغيرنا.
لاشك أن "غازي القصيبي" أيقونة النجاح ،الإداري القوي الذي كان يملك القدرة على تحويل "نشارة الخشب إلى سفن إنجاز" يملك القدرة على تحويل الفشل إلى نجاح لأن رؤيته كانت تعتمد على استثمار نقاط القوة الخفية داخل البشر،تعتمد على قلب التحديات إلى فرص.
كان إداريا له نظريته الإدارية التي اثبتت بالواقع والبرهان إنها "نظرية النجاح و الإنجاز" ولذا كان ينجح في أي مكان و يتركه مضيئا بالأثر و المآثر.
لكن ليست هذه هي الحكاية الكاملة لغازي القصيبي الرجل القوي الذي يملك القاعدة الذهبية للنجاح والإنجاز، فوراء هذه الحكاية التي تُروى في الضوء حكايات أخرى تتخفى وراء حجاب، هذه الحكايات الخفية يكشفها لنا الأستاذ حمد القاضي في كتابه"قراءة في جوانب الراحل الدكتور غازي القصيبي الإنسانية".
حكايات خفية تسلط الضوء على الجانب الإنساني للدكتور غازي القصيبي -رحمه الله-. غازي القصيبي الإنسان متجردا من أزياء الإداري و السفيروالوزير،القوة الناعمة لتلك الشخصية القوية التي كانت و ماتزال تملئ دائرة الضوء حضورا في غيابها.
في مقدمة كتابه يذكر الأستاذ حمد القاضي اختياره الجانب الإنساني لغازي القصيبي ليقدمه إلى الناس ويؤسس له مكانا في دائرة الضوء فيقول" الأول: توثيق إنسانياته في كتاب يكون أما م محبيه وأمام الجيل القادم ليّدرك الجميع أن غازي القصيبي رغم كل مشاغله وارتباطاته لم تصرفه مسؤولياته عن استحقاقات إنسانيته -رحمه الله-.
والثاني:إن الناس عرفوا د.غازي القصيبي وزيرا وسفيرا و أديبا و اقتصاديا و سياسيا إلى آخر صفاته و مهامه،ولكن قليلا منهم عرفوه "إنسانا" تفيض دمعته و تسهر مقلته و يّسّخر الكثير من جاهه و وقته لمؤازرة محتاج و إغاثة ملهوف و مسح عبرة يتيم و إقالة عثرة معاق.
و ثالث الأسباب:إن غازي القصيبي أفضى إلى خالقه و بقدر ما سيبقى ذكره عاطرا بمنجزاته الإدارية و الأدبية فهو أحوج ما يكون الآن إلى دعوة صادقة في جنح ليل،وهذا أكثر ما يحفز إليها إعماله الإنسانية و الخيرية"-ص 11-ط4-.
إن المفهوم الحيّ للإنسانيةيتجاوز "دلالة العطاء في جذرها المادي" -الصدقة و الإحسان ،بل هي دلالة كلية تسير تحت مظلة "الفائدة" فالفائدة هو الجذر الحقيقي لدلالة الإنسانية و قيمتها، وكلما اتسعت مساحة الفائدة توثّقت قيمة الإنسانية في آثارها.
في إنسانيته كان ينطلق غازي القصيبي من "عقلانيته التقديرية لمستوى الفائدة الحاصلة وقيمتها وأثرها" وهذه العقلانية التقديرية تغيب عن الكثير منّا في تطبيق إنسانيتنا، فكم من إنسانية وُضعت في غير محلها جلبت خطرا على المجتمع.
والفكرة السابقة للعقلانية التقديرية لأثر الإنسانية داعبت ذهني وأنا أقرأ قصة "تبرع الدكتور غازي القصيبي بمبلغ ثلاثمائة ألف ريال للمكتبة التابعة للمركز الإسلامي بلندن،ورفضه الإعلان عنها في وسائل الإعلام لأنها صدقة لا يريد أن "يحرق ثوابها بوهج الإعلام"-حمد القاضي،ص14-.
الإنسانية فكرة "نهضوية" في أصلها خالية من الغايات الخاصة هدفها "الارتقاء" سواء ذلك الارتقاء كان موجها للأفراد أو المكان أو الإنجاز،وبهذا المفهوم فإن نجاح غازي القصيبي في كل منصب يتولاه كان ينطلق من "الإنسانية النهضوية" لأنها تُزيل العقبات أمام الآخرين و تساعدهم على العطاء و تحقيق "الفائدة و الأثر".
وأقرب مثال لهذا الجانب من إنسانية غازي القصيبي "محاربته للبيروقراطية" لأنها تحجب الفائدة عن الناس وتعيق مساراتهم.
"فكرة الواسطة" هي فكرة خالية من الإنسانية ليس لأنها غالبا ظلم للطرف الأكفأ بل لأنها قفز على الحقوق،وهو قفز يعيق عجلة الإنجاز،أظن أن غازي القصيبي كان يرى الواسطة بهذه الزاوية و حتى وإن كان من يتوسط هو صديق و من يسعى إليها جدير،المسألة لديه مبدأ محسوم،وهو أمر نكتشفه من خلال قصة "حمد القاضي و قصة وساطته للطبيب للابتعاث".
المساواة جزء من المنظومة الإنسانية وهذا الجزء نكتشفه في حكاية غازي القصيبي مع مدير إحدى المستشفيات ومقارنته بين "حمام هذا المدير وحمام مريض" التراتيب لا تعني أفضيلة الخدمات،ومنبعتقد بذلك فهو غير جدير بتكليف المسؤولية،ولذا فلا نعجب من فعل غازي القصيبي عندما نقل مدير مستشفى من أجل "حمام المريض"فلا تفاوض على شرف القيم.
إذا أردت أن تقيس "عظمة إنسانية شخص" ففتش عن صوته بين الأطفال، فمواقفنا نحو الأطفال هي الأهم في تقدير قيمة إنسانيتنا،وغازي القصيبي لم يكن صوتا بين الأطفال بل كان مؤسسا لصوت أطفال آمن بقدراتهم في زمن كان وصف الضعف يحيط بهم كالماء،فزرع مفهوما جديدا لهؤلاء الأطفال وحوّل "محنتهم إلى منحة" من خلال منجزه الإنساني"جمعية الأطفال المعوقين" "لقد جعل المجتمع يقف مع الأجهزة الحكومية بالاحتفاء و الرعاية لهذه الفئات علاجا و تدريبا و ترفيها و دمجا بالمجتمع"-حمد القاضي ص24-
تتبلور قيمة الإنسانية في التفاصيل،فالابتسامة تجلب السعادة للآخرين،الكلمة الطيبة تُحفّز على الإنجاز،هذه التفاصيل التي كان يهتم بها غازي القصيبي "كبطاقة معايدة للموظفين و بطاقة شفاء للمرضى لتأسيس فكرة الوحدة الوجدانية التي تُخفف ألم النفس قبل ألم الجسد، بطاقة دعوة لمستخدم لحضور زفاف ابنته يارا ،زيارة لمريض يُعطّل كل أعماله للقيام بها،ليمنحه قرار الأمل في أشد الألم،دمعة رحمة لألم ضعيف لايملك سلطانا لتغير حاله،كما حدث معه مع "مريضات مستشفى الولادة و الأطفال في المدينة المنورة".
هذه بعض الحكايات التي يذكرها لنا الأستاذ حمد القاضي في كتابه قراءة في جوانب الراحل غازي القصيبي الإنسانية.
حكايات تكشف"الجانب الإنساني من شخصية القصيبي،الجانب الإنساني بكل دلالات هذه المفردة و حمولاتها،و رغم ما أحاط به من شهرة...بقي إنسانا."-ص13
كان غازي القصيبي يُمارس إنسانيته بطريقته الخاصةالتي تُعلّم من حوله القيم الحضارية للإنسانية في مضمونها لا في أشكالها مثل المحبة و التسامح و الرحمة و المساواة و العدل،هذا هو غازي القصيبي له رؤيته الذهبية المختلفة لكل شيء لذا سيظل مثل "طائر الفينيق" خالد الذاكرة كلما جنّ الظلام تبعثه حكاياته من جديد ليحلّق في عين الشمس.