د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أقرأ هذه الأيام كتابًا صدر حديثًا بعد أن كان مخطوطة مدة طويلة من الزمن، اسمه: (لنخبة السنية في الحوادث المكية)، من تأليف الأستاذ المرحوم أحمد بن أمين بيت المال المتوفى عام 1323 هجرية. ورغم أن الكتاب قد كتب بلغة عامية إلى حد ما، فإنه أعطى فكرة يمكن وصفها بأنها جيدة جداً عن الفترة التي عاشها، والأنشطة الاجتماعية التي كانت سائدة، وقد تعرفنا من خلال الكتاب على عادات المجتمع المكي الكريم في تلك الفترة. وقام بتحقيق الكتاب الأستاذ حسام بن عبد العزيز مكاوي، وقد حرص المحقق على أن يحذف من الكتاب ما هو حساس لبعض الأشخاص أو الأسر، أو الكلمات غير المناسبة، أو غير ذلك من الحوادث، وأيضًا كان للهوامش التي كتبها، والمراجع التي يعود إليها ثرية، وأفادت كثيرًا في إضافة معلومات جديدة إلى ما في الكتاب من معلومات.
الحوليات مأخوذة من الحول، أي أنها تواريخ سنوية متعاقبة، وهذا نهج اتبعه الطبري وابن كثير، وغيرهما كثير من المؤرخين المسلمين في المشرق، وأيضًا كذلك في المغرب العربي، وفي الأندلس، وهذا أمر مألوف وليس بجديد على التاريخ والثقافة العالمية، فقد وجدت أوراق من البردى حكت أحوالاً وقصصًا حولية عن المجتمع الفرعوني آنذاك، وقد أعطت فكرة عن ما كان يعيشه المجتمع البسيط في ذلك الوقت، وقد أُتيح لي الاطلاع على الحوليات الصينية القديمة وتاريخ الصين، وقد أفادت تلك الحوليات الصينية كثيراً لمعرفة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في ذلك الزمان. ويبدو أن هذا النهج من التأليف لم يعد موجودًا في هذا الزمان بكثرة، لأسباب عديدة منها أن المؤرخ يتوسع في العودة إلى المراجع، وأحياناً يسهب في التحليل ويميل حيث يميل هواه أو منفعته، وقد يبالغ في المديح، وربما يعسف الأحداث عسفاً حتى تتوافق مع ما يريد، أو يُراد له أن يُكتب. ونظراً لتوفر المراجع وتعددتها في هذا الزمان فإن البعض قد يختار ما يتوافق مع الغاية التي من أجلها كتب الكتاب، وقد يخفي بعض المعلومات التي قد لا تفيده في ما يريد أن يرسلها إلى القارئ المستهدف، وأحيانًا يكون للسياسة دور في ذلك، وهذا ما نراه في عدم خروج بعض الوثائق القديمة في الدول المتقدمة مثل أمريكا وأوروبا إلا بعد أن يمر عليها فترة من الزمن، ويتم فحصها، وربما تنقيحها، أو قد يصل الأمر إلى تعديلها، وهذا ما شاهدناه أيضًا في بعض الوثائق المتعلقة بتاريخ بعض الدول.
من المؤسف حقاً أن الحوليات وغيرها من التواريخ تركز على الظروف والأحداث السياسية، وما قد يحدث من قصص في مجالس الحكام من الأنس والطرب واللهو، سواء كانوا خلفاء أو ولاة أو غير ذلك، وتغفل طبيعة الحياة الاجتماعية التي يعيشها الناس، وقصصهم، ونمط حياتهم، ونهجهم الاجتماعي، وتعاملهم المالي، والمستوى المعيشي لطلباتهم. والحقيقة أن هذا النوع شبه مفقود، ويحرص الباحثون على التنقيب عنه في كل سطر من سطور التاريخ العربي، كي يصلوا إلى ما يقربهم إلى المجتمع، لكنهم مهما حاولوا فقد يعطون انطباعا عاماً، لكن ليس دقيقًا بما يكفي، وكلنا يعرف ماذا حدث من أحداث بقصر الوليد بن يزيد الأموي، وأيضًا قصور بني العباس مثل هارون الرشيد، والأمين، والمأمون، والمتوكل، وما بعدهم، وما كان يفعله الحاكم بأمر الله الفاطمي، وأيضًا ما كان يعيشه حكام بني أمية في الأندلس، مثل الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الملقب بالربضي، وأيضاً عبد الرحمن الناصر، وما جرى من أحداث في قصر المستنصر وزوجته صبح البافارية، كما نقل المؤرخون لنا تلك القصص والعجائب التي حدثت في قصور بني عباد في إشبيلية، وابن الأفطس، وابن رزين، وغيرهم، وكذلك لدى الحكام المرابطين بعد ابن تاشفين، وأيضًا الموحدين، وهكذا هي الأحداث والتواريخ التي تركز على ما يجري من الخاصة، وليس العاملة. ومن المؤسف حقًا أن نجد وزيراً وأديبًا وشاعرا مميزاً مثل ابن الخطيب لم ينقل لنا شيئًا كثيرًا عن المجتمع، مع كثرة مؤلفاته، وإنما كان يتحدث عن السياسة وعلاقته مع منافسيه ورجلاته. أما ابن خلدون وهو الذي زامل ابن الخطيب في الأندلس، فإنه ترك لنا كتاباً نفيسًا جدًا سماه عمارة الأرض، وهو علم الاجتماع الذي ابتكره، لكنه لم يذكر حالة المجتمع، وإنما حلل سلوك المجتمع، فأفادنا بهذا التحليل إفادة رائعة وجميلة.
لقد ترك لنا المؤلف أحمد أمين بيت المال -رحمه الله- إرثًا قيمًا عن المجتمع المكي يختلف عن التواريخ المعروفة، لأنه كان يحكي لنا الأحداث اليومية للمجتمع من حيث الزواج ومن حضره وأسماء المتزوجين، والأشعار التي قيلت، وعدد الشموع والقناديل، كما ذكر لنا قدوم مسؤول كبير أو ثري، وما قام بتوزيعه على الناس، وأيضًا أحداثًا بسيطة مثل خروج مجموعة من الشباب في الضواحي، للاجتماع والفرح، والمنافسة من مجموعة أخرى، وشكوى المجتمع من الأسعار والغلاء، والشراء والبيع، وذكر بعض العلماء وسدنة البيت الحرام، والعلماء من المذاهب الأربعة وغير ذلك مما يتعلق بالمجتمع المكي، ولنا عودة -إن شاء الله- للحديث عن بعض ما حواه هذا الكتاب.