أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: المعرفة التي تتم بهذه العمليات تسمّى معرفة عقلية؛ ولا تكون معرفة عقلية إلا وفق قوانين العقل المشهورة.. وهناك وجوه ارتيابية تختبرها هذه الأسئلة: هل نحن لا نعرف شيئاً؛ لأنه لا حقائق في الوجود؛ أو لأننا لا نستطيع أن نعرف شيئاً، أم أننا نعرف شيئاً على سبيل الشك لا على سبيل اليقين، أم أننا إذا عرفنا شيئاً مشكوكاً فيه؛ فكل ما آمن به بعضنا (وإن كان بخلاف ما عند الآخرين؛ فهو حق كله؛ لأنّ الحق حق عند من يعتقده.. وهذه هي مذاهب السفسطة التي تدور على ثلاثة؛ وتتلخص في ثلاثة مذاهب هي إنكار الحقائق؛ وهو مذهب العنادية، والارتياب فيها؛ وهو مذهب الشكاك أو الارتيابيين أو الحسبانيين أو اللا أدريه؛ ومذهب الاعتقاد بأنّ كلّ شيء ارتبنا فيه فهو حق؛ وذلك مذهب (الحق حق عند من يعتقده)؛ وحجتهم تكافؤ الأدلة بين المختلفين، وقد ردّ على هؤلاء العلماء والفلاسفة في كتبهم وشرحوا مذهبهم [انظر على سبيل المثال (المغني) لعبد الجبار بن أحمد المعتزلي في الجزء الثاني عشر الخاص بالنظر والمعارف ص 41-54، وبعض كتب الإمام ابن حزم مثل (الفصل) 8-1- 9 بعنوان (باب الكلام على أهل القسم الأولى؛ وهم مبطلو الحقائق؛ وهم السوفسطانية)، وفي (الفصل) 5-119-136 بعنوان (الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة).
قال أبو عبدالرحمن: ثمة استشكال رابع وهو: هل في الوجود حقائق من الممكن أن نعرف منها أشياء من غير قطع، ومن الممكن أن نجهل أشياء, ومن الممكن أن نعرف أشياء على سبيل القطع واليقين.. وأصحاب هذا المذهب مختلفون في المثل الأعلى للمعرفة؛ أي المعرفة اليقينية بماذا نحصلها: أبالحس، أم بالحس والتجربة، أم بالعقل، أم بالروح والإلهام، أم بالشرائع.. وكلّ مذهب من هذه المذاهب يحرص على وضع قانون للحصول على المعرفة اليقينية.. ولقد آثرت هنا أن تكون نظرية المعرفة مبنية على المسلمات العامة التي يؤمن بها مثبتو الحقائق والمعرفة؛ وهم أصحاب المذاهب المتفرعة عن المذهب الأخير الذي ذكرته آنفا.. أما السوفسطائيون فقد آثرت أن لا أراعي خلافهم هنا، وأن أقول {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6) سورة الكافرون؛ وذلك لعدد من الأمور: أولها أنّ كل بداية سوفسطائية لابد أن تعتمد على أركان من المسلمات والقطعيات.. وثانيها أنّ مذهب السفسطة يعني اعتقاد شيء ما؛ فهذا الاعتقاد معرفة؛ فهو مذهب ينقض آخره أوله، وما بني على التناقض: فمن الحيف أن يراعى في الخلاف.. وثالثها أنّ كل خطوة يخطوها السوفسطائي في الحوار: تعني أنه يعرف شيئاً.. وما يلزمه من معارف في خطواته الأولى هو المسلمات العامة لمثبتي الحقائق؛ فلابد أن نبدأ من المسلمات التي يؤمن بها كل مخلوق: إمّا لإقراره بها، وإما للزومها له عند الحوار.. ورابعها أنّ جميع مذاهب السفسطة لا تخلو من أحد أمرين: إما أن يكون شاكاً، وإما أن يكون مستيقناً، فمذهب اللا أدريه مذهب شك بطبيعته، ومذهب العناديّة يبدو أنه يقيني؛ لأنه نفى يقيناً أنه لا وجود للحقائق ولا معرفة له بها؛ فالمعرفة في زعمه يقينية؛ فهذا في حقيقته شاك أو مستيقن، ولابد من أحدهما؛ لأنك إن قلت له: (هل نفيك للحقائق معرفة يقينية عندك أم لا؟): فلا بدّ أن يقول (معرفتي بذلك يقينية)؛ وبهذا يكون نقض مذهبه في أنه فقد نقض مذهبه في أنه لا يعرف شيئاً؛ فكان من فئة القطعيين.. أو يقول: (لا أدري، أو أنا شاك)؛ فهو من اللا أدريه؛ ولهذا كان البناء على مسلمات هو الأصل عند كل البشر.. وخامسها أنّ غرضي شرح معرفتي، وبيان مدى ثقتي بها، وتحصيني اليقينيّ منها من الشكوك، وإلزام كلّ من يؤمن بالمسلمات العامة باليقين بها؛ لأنها عند تحليلها تعود إلى المسلمات، وموجز هذه المسوغات الثقة بالمذهب القطعي (مذهب مثبتي الحقائق، ومثبتي معرفة بعضها على سبيل اليقين.. ومنهجي منهج من يذهب إلى بناء نظريات المعرفة على مسلمات قطعية يؤمن بها كل من يؤمن بمعرفة يقينية لأيّ حقيقة ما: أي عدم مراعاة خلاف السوفسطائية, وعدم الابتداء بالسفسطة؛ وهؤلاء لا يهمهم إرغام السوفسطائيّ على الإيمان بالمعرفة؛ وإنما يهمهم تحصين عقيدتهم أنفسهم من أن ينحرف بها شكّ السوفسطائيّ، وهذا هو منهج المتكلمين من المسلمين؛ فهم لا يحاجّون السوفسطائيّ عند تقريرهم نظريّة المعرفة؛ وإنما يحاورونهم في مباحث خاصة لإفساد اعتراضهم.. بل هناك من لا يرى محاورتهم أو التكلم معهم، وأنّ حقهم أن يؤدّبوا فقط [انظر (المغني) لعبد الجبار 12-41]، وقد رأيت أن صياغة المنهج الأول وإن كانت مبنية على صياغة سوفسطائية في بناء نظرية المعرفة لا تقوم دون أركان من المسلمات القطعية؛ وأذكر على سبيل المثال منهج ديكارت في بناء المعرفة على السفسطة؛ فقد زعم على سبيل الافتراض: أنه لا يعرف شيئاً، لا يعرف: أهو موجود، أم لا؟؟!!؛ فهذه بداية سوفسطائية، ثم زعم أنه إن عرف شيئاً فهو مشكوك فيه؛ فهذه سفسطة ثانية، ثم انتهى إلى قطعية أخذها من هاتين السفسطتين؛ وهو أنه يشك؛ أي لأنه لا يقين عنده؛ لأنه إن كان هذا الشيء يقيناً من تلك الوجوه: فهو باطل من وجوه أخرى.. هذه هي صفة الشك.. ومن يشكّ يفكّر؛ لأنّ الشك أدنى مراحل التفكير؛ فعند ديكارت حقيقة ثانية هي: (أنا أفكر).
قال أبو عبد الرحمن: لو كانت كلّ بداية المنهج سوفسطائية لما كان له الإيمان القاطع بأنه يفكّر؛ بل انتهى إلى هذا اليقين بقطعية لا سفسطة فيها؛ لأنّه بين الشك والفكر علاقة لغوية؛ وهذه العلاقة اللغوية رمز عن معرفة ما؛ إذ ألفاظ اللغة رموز للمعارف.. ولو أتمّ صياغة البداية للتّسفسط لقال: (لا وجود لشيء اسمه شك أو يقين).. ولا رأيت أنّ الفكر صفة إثبات؛ والإثبات وجود؛ فلا يفكر إلا موجود؛ فكانت صياغة الكوجيتو الديكارتية: (أنا أفكر: إذن أنا موجود)، وهاته قطعية لا سفسطة كالتي قبلها.
قال أبو عبدالرحمن: أريد أن أتجنب المصطلحات التي تعدّدت معانيها حتى لا يحدث اللبس والإيهام في المعاني التي أريدها؛ فلن أتكلم عن المادة واللا مادة؛ لأن في ذلك متاهة بين الماديين والمثاليين؛ وإنما أتكلم عن الموجود واللا موجود، والمفهوم واللا مفهوم؛ والموجود الذي تصل إليه معرفتي: قد يكون حسياً عرفته بحسي، أو بممارسة الآخرين؛ وهذا يطلق عليه (مادي)؛ أي له كم، أو كيف بشتى المقادير والأشكال، ومعرفتي لهذا اللون معرفة (حسية عقلية).. وقد يكون الموجود الذي تصل إليه معرفتي، ولا أقول إنه مادي، أو غير مادي موجوداً لم أعرفه بحسي، ولم أر أنّ الناس مارسوه؛ فمعرفتي به ليست معرفة (حسية عقلية)؛ بل معرفة (عقلية خالصة)؛ لأنني أعرف وجوده بلزوم عقلي، أو بإحساس لأثره.. ويؤيد صدق هذه المعرفة: أنّ كثيراً من معارفي الحسية العقلية كان معرفة عقلية خالصة قبل أن أحس به؛ فلما أحسست به صار معرفة عقلية حسية، والذي يسقط المعرفة العقلية الخالصة من نصاب المعرفة البشرية: ينسى أنّ كل تجربة حسية مسبوقة بمعرفة نظرية، ولم تكن المعرفة النظرية خاطئة في كل التجربات؛ فصدق وصحة بعض المعارف النظرية دليل على صحة المعرفة العقلية الخالصة.. وهب أنّ معرفة العقل الخالصة: لا تتأتى إلا من تجريدات وعمومات حسية؛ إلا أننا في هذا التجريد والتعميم: نصل إلى معرفة وجود ما لم نحسه بعد؛ فكلامنا عن الشيء الذي نعرفه، وليس عن مادتنا في المعرفة.. ولست الآن بصدد إقامة البرهان على وجود معرفة حسية عقلية، ومعرفة عقلية خالصة؛ وإنّما حديثي عن المعرفة الحسية العقلية فقط؛ فالمعرفة الحسية هي التي التقطها بحواسي الخمس الظاهرة، وسأستثني من البحث: ما أعرفه بحسي الباطن: الذي يدرك ألم الحزن ولذة الجماع.. والشيء المحسوس الذي عرفته بحسي: لابد أن يكون له مقدراً من المقادير الكمية، أو شكل من الأشكال الكيفية؛ وهو ما يسمونه بالمادة؛ وهي الكائنات الحية من الحيوان والنبات، وغير الحية: من الجوامد والسوائل والكهارب، والذبذبات والطاقة.. والماديون يسمون هذه الأشياء الطبيعية.. إن الطبيعة في أغلب أشكالها وفي جمع عناصرها: سابقة للوعي البشري؛ لأنّ كل مولود منا يفتح وعيه على كائنات موجودة قبل أن يوجد هو ووعيه؛ فإذا تفتح وعيه على الكائنات: عكس له حسه البشري صورة الكائنات، ومن تجمع هذه الانعكاسات، ومشاهدة العلاقات بينها يأخذ العقل أحكامه وقوانينه وتجريداته وعموماتهالبرهان على ذلك: أنّ الكائنات قبل الوعي، وأنّ الكائنات لا تفتقر في وجودها إلى مخلوق بشري يعيها.. بيد أنّ عدداً من الفلاسفة تقحموا حماقات إيديولوجية: يحار الفكر في تسليمهم بها مع عظم عبقريتهم، وسعة معارفهم؛ فثمة فلاسفة يعرفون بالمثاليين الذاتيين ك (باركلي)، و(ماخ) يقولون: ما ثمة موجود موضوعي خارج حسنا؛ إنما الموجود الإحساس الذاتي؛ أي الثابت في إحساسي، أو المشترك في إحساس عدد الناس، ويترتب على هذا المذهب: أنّ الإنسان لا يعرف الأعيان بصفاتها وخصائصها؛ أي أنه لا وجود لشيء خارج الحس البشري له صفات وخواص؛ وإنما الحس البشري بوجود هذه الإحساسات فيه: خلق أشياء خارج الحس ومنحها صفات وخصائص، ويلزم هؤلاء أنه لا وجود إلا للوعي البشري، وبعضهم يقول: توجد أعيان خارج وعينا، ولكن حسنا البشري لا يعكس لنا صورة هذا الوجود ولا سبيل لنا إلى المعرفة إلا بالحس؛ لذا فنحن عاجزون عن معرفة الأعيان الموجودة؛ وبهذه يلتقون في كلتا الحالتين مع الارتيابيين.. ومجرد عرضنا لدعوى المثاليين، ومن يقول باستحالة المعرفة كاف للدلالة على سخافة هذه الدعوى، ولكن الأنصاف يقتضي منا عرض وجهة نظرهم مصحوبة بتأييداتهم لها.. ولقد رأيت: أنّ كل تأييد لهذه الدعوى يقوم على التمثيل بحالات من حالات خداع الحواس: خذ على سبيل المثال: الأول يقول الفيزيولوجي الألماني (موللر): (إنّ الإحساسات لا تتعلق بتأثير أشياء العالم الخارجي؛ بل بأعضاء الحواس ذاتها)؛ أي الطاقة النوعية الملازمة لها؛ وهذا يعني أنّ معرفتنا الحسية ليست، انعكاسات للعالم الخارجي؛ وإنما هي من معطيات الحس نفسه.. وقد وسّع (فورباخ) هذه النظرية وسماها (المثالية الفزيولوجية).. وماداموا يتكلمون بلغة فيزيولوجية فالأمر هين.
(له تابع)
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) -عفا الله عنّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-