منذ فجر التاريخ أحب العربي صحاراه على ما هي عليه من قسوة، ورعب، وشح، وجفاء. وتكيّف معها محاولاً مساواة نفسه بأي كائن حي آخر يعيش فيها. وقادته الدوافع الغريزية إلى البحث عن أسباب الحياة في أنحائها المترامية، حاطًّا رحاله وأحماله في أية يهماء ذات غدير ماء وعشب، كما أتقن العربيّ فن الخلطة الحميمة في علاقته بالأرض الصحراوية. عشقها لأنها تجود بالماء والكلأ، وشَبِّب بها وبحيواناتها وبخاصة الإبل والمها حتى حين تشحّ بالمطر. ولم يُضِع حالة واحدة في التعاطي مع سرّ تعلقه بهذه الشريكة التي أعطى لكل بقعة من بقاعها البخيلة اسمًا، أو صفة، أو إشارة، ولكل حيواناتها اسمًا وغزلاً
على أن الصحراء وان خلت أكثر تباعها من الجمال المصنوع غنية بالجمال المطبوع فهنالك يبزغ القمر وضاح الجبين بسامًا، ويبعث أشعته الفضية للمدلج والساهر والسامر فيخلب لبه، وهنالك تلتمع النجوم سافرات وتومض كأنها ماسات في سماء صافية الزرقة فتناغي وتناجي، وهنالك تجدب الأرض، وينبسط الرمل، ويرتفع النجد، ويصلد التل، ولكن السماء تجود على بعض البقاع بالمطر والخصب، فتنبت الواحات، وتعشوشب الأرض، ويجري الغيث في مسايل وجداول، ويستقر في غدران وقيعان فإذا ما رأى البدوي الأرض وقد اكتست بالخضرة بعد العرى، وإذا ما أوى إلى الظل والماء بعد جهد الرحلة في متاهات الصحراء ودروبها التي يعرفها ملكه الإعجاب والروعة، وأحس بما لا يحس به من ألف الخضرة والماء في الوادي الخصيب.
والعرب في ترحالهم المتكرر عبر الصحراء لم يتيهوا يومًا واحدًا لدرجة يخيل للغريب عنهم أنهم قادرون على تحديد كل شبر من الأرض في تلك المفاوز المنبسطة والممتدة الخالية من أي معالم للاستدلال بها! بينما تاه بنو إسرائيل أربعين سنة في التيه من بئر إلى بئر أخرى، حيث المشي في أعماق الصحراء بعيدًا عن أي درب مطروق. بينما العرب استطاعوا بعين اليقظة قراءة آثار القوافل التي وطئت أديم الصحراء العربية عبر التاريخ وفك رموز خرائطها الجغرافية في وقت لم تتبين عينا غيره أي حروف تقرؤها أو رموز تتأملها!
والعرب اشتهروا في جزيرتهم بمعارف لم يشتهر بها غيرهم بسبب خاصية بلادهم القاحلة وطبيعتها القاسية، ومن أبرز هذه المعارف معرفة الجهات ودلالة المسالك والطرقات في الصحراء المترامية الأطراف، وهذا ما جعل محمود شكري الألوسي يفرد بابًا في كتابه بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب اسماه: علم الاهتداء في البراري، وقال في تعريفه: هو علم يتعرف به أحوال الأمكنة من غير دلالة عليه بالإمارات المحسوسة، لا يعرفها إلا من تدرب فيها كالاستدلال برائحة التراب، ومسامته الكواكب الثابتة، ومنازل القمر، إذ لكل بقعة رائحة مخصوصة ولكل كوكب سمت يهتدي به كما قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97)
ونفع هذا العلم عظيم بيّن وإلا لهلكت القوافل وضلت الجيوش فضاعت في البراري والقفار».
والعرب أدلاء حباهم الله بحس غريزي للاتجاهات لذا أطلق المستشرقون عليهم لقب بوصلة الصحراء، وضربت العرب المثل للماهر منهم بالدلالة بالقطا فقالوا: «أهدى من القطا. أو أدل من قطاة». وذلك أن طائر القطا يترك أفراخه في الصحراء ثم يرد الماء في أي موضع منها مهما كان بعده ثم يعود لأفراخه مرة أخرى، وقال شاعرهم:
عليه قرمٍ لا أظلم الليل ما انغطّ
أدل من فرق القطا صوب خابور
كما أطلق العرب على الدليل الحاذق بالدلالة الخريت
فالخريت في اللغة العربية: الماهر الذي يَهتدي لأخراب المفاوز، وهي طرقها الخفية، يقال: دليل خِريت بريت، إذا كان ماهرًا بالدلالة، مأخوذ من الخُرت، وغنما سمي خِريتا لشقه المفازة.
جاء في حديث الهجرة النبوية: «أن الرسول صلي الله عليه وسلم استأجر رجلاً، من بني الديل، هاديًا خِريتًا».
وقال الشاعر رؤبة بن العجاج:
أرْمي بأيدي العيس إذ هَويتُ
في بلدة، يعيا بها الخِرِّيتُ
ومعرفة العرب للاتجاهات الدقيقة في الصحراء من الظواهر الخارقة للعادة لأنه لا يمكن اكتسابها بالتجربة والمراس بل هي حاسة خاصة لا يملكها كل الناس ولكنها قد توجد في بعض القبائل والعوائل والأفراد دون غيرهم، حيث يتمتعون بمقدره عجيبة في معرفة الاتجاهات ودروب البيداء.
وفي ذلك يقول برترام توماس- أول غربي يعبر الربع الخالي من غير العرب-: «قد يظن ظان أن معرفة أدلاء العرب بالأماكن والاتجاهات معتمدة على الشمس والنجوم فقط، بل لا بد أن يتوفر للدليل حدس وبديهة حاضرة ويقظة تستشْعر من خلالها أماكن وجود الماء والمرعي، بالإضافة إلى القدرة على فك شيفرة وطلاسم الرمال وتجنب الشرور التي قد تقود إليها الآثار المرسومة على وجه الرمال! فلا يملك كل عربي يولد في الصحراء القدرة على الإرشاد إلى الطريق، ففي حقيقة الأمر يضل الكثيرون الطريق ويقضون من العطش خصوصًا عندما يشرد الجمل في الصحراء صيفًا ويضطر أصحابه إلى تتبع أثره ويعتمد عند عودته على تتبع آثار أقدامه أو آثار أقدام الآخرين وهي أكثر الطرق أمانًا لمن ضل الطريق للوصول إلى الماء، ولكن الرياح تمحو كل آثار الأقدام وهي خطر قائم في أي وقت ولا يمكن التنبؤ به».
أشهر أدلاء العرب
- دُعيميص الرمل العبدي: مضرب مثل في الدلالة عند العرب: «أدل من دعيميص الرمل», ذكر الإخباريون أن دعيميص بلغ أرض وَبار - موضع بين اليمامة والشّحْر- أهلك الله ساكنيه فغلب عليه الجن، ولم يبلغ هذا الموضع غير دعيميص هذا! وذلك أن إبله سارت إلى هذا الموضع فركب التي اقتعدت منهن واتبعهن إلى هذه الأرض وجعل يملأ بيض النعام ماء ويدفنه في الرمل فلم يزل في اثر البعير حتى ردها فرجع فجعل يستثير البيض فيشرب الماء حتى أتي أهله.
- حنيف الحناتم: مضرب مثل في الدلالة عند العرب: «أدل من حنيف الحنتم»، كان ماهرًا بالدلالة.
- خالد بن دثار الفزاري: دليل بني فزارة على كلب يوم بنات قين.
- الاصيدف بن صليع الطائي: كان عالماً بالبلاد دليلاً.
- عبدالله بن اريقط العدوي، حليف العاص بن وائل السهمي، دليل رسول الله صلي الله عليه وسلم ليلة الهجرة.
- عبدالجبار بن يزيد بن ربعة الكلبي: دليل بني المهلب بن أبي صفرة حين هربوا من سجن الحجاج ولحقوا بسليمان بن عبدالملك.
- رافع بن عميرة الطائي: من خبره: أنه لما كتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إلى الشام واليًا مكان أبي عبيدة بن الجراح، أخذ على السماوة حتى انتهي إلى قراقر في مفازة، فلم يعرف الطريق، فدُل على رافع بن عميرة الطائي وكان دليلاً خِرّيتًا، فقال لخالد: خلّف الأثقال وأسلك هذه المفازة إن كنت فاعلاً فكره خالد أن يخلّف أحدًا وقال: لا بد أن نكون جميعًا، فقال له رافع: والله إن الراكب لبفرد ليخافها على نفسه وما يسلكها إلاَّ مغرور مخاطر بنفسه، فكيف أنت بمن معك؟! فقال خالد: لا بد من ذلك. فقال الطائي لخالد: أبغني عشرين جزورًا مسانّ عظاماً. ففعل، فظمأهن ثم ساقهن حتى روين ثم قطع مشافرهن وكعمهنّ لئلا تجتر، ثم قال لخالد: سر بالخيول والأثقال فكلما نزلت منزلا نحرت من تلك الجذور أربعًا ثم أخذت ما في بطوهن من الماء فسقيته الخيل وشرب الناس مما تزوّدوا، ففعل. فلما صار إلى آخر المفازة انقطع ذلك وجهد الناس وعطشت دوابهم، فقال له خالد: ويحك ما عندك؟ قال: أدركت الريّ إن شاء الله. انظروا هل تجدون شجرة عوسج على ظهر الطريق؟ فنظروا فوجدوها فقال: احفروا في أصلها فحفروا فوجدوا عينًا فشربوا منها وتزودوا، فقال رافع والله ما وردت هذه الماء قط إلاَّ مرة واحدة مع أبي وأنا غلام.
ورافع هذا الذي قال فيه الراجز:
لله در رافع أنّى اهتدى
فوّز من قراقر إلى سوى
أرضًا إذا سار بها الجبس بكى
ما سارها قبلك من إنس أرى
أشهر أدلاء العرب في العصر الحديث
- نزال بن رشيد المعصب الرشيدي: جاب شمال ووسط الجزيرة العربية بمعرفة ودراية وكان من أشهر الشخصيات البارزة في الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية في بداية القرن العشرين وقد ذكره الرحالة البريطاني ديكسون في كتابه المصور البدو، وأشاد بفضله وذكر أنه لولا نزال لهلك في الصحراء.
- نازل بن ثنيان: فارس شجاع جاب أصقاع الجزيرة العربية مع أليس موزيل وعندما أراد موزيل أن يختبر نازل عن معرفته بالصحراء قال له: كيف نذهب من الشمال إلى حايل، فرسم نازل الطريق بالصخر كما البوصلة التي معه وعندما هاب الطريق من قطاع الطرق قال له: يقال إني أفضل قائد للفرسان وبالتالي أعرف كيف أحمي نفسي ومن معي، وصفه أليس بقوله: ضعيف نحيل لكن عينه حادة ولها بريق وتبين أن في هذا الجسم روحًا وبأسًا.
- حمد بن هادي: دليل الرحالة برترام توماس - أول مستشرق يعبر الربع الخالي- الذي كان يتعجب من قدرته التي اختبرها مرارًا بمقارنتها بمعطيات الأدوات التي يحملها. والذي أعلن أن موهبة دليله حمد ترجع إلى حس غريزي للاتجاهات حباه الله به لذا أطلق عليه لقب: «بوصلة الصحراء».
** **
salahalshehawy@yahoo.com