د. عيد بن مسعود الجهني
النفط هذه السلعة غيرت وجه الحضارة الإنسانية وأشاع نورها الدنيا كلها، من أكثر السلع تداولاً على المستوى العالمي، منذ أوائل قرن النفط المنصرم مروراً بالحربين العالميتين المدمرتين بنازيتهما وبلشفيتهما ثم الحربين الكورية والفيتنامية وحروب عام 1956 و1967 و1973م واحتلال الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان عام 1979م والحرب الإيرانية - العراقية 1980 - 1988 واحتلال العراق للكويت 1990م وتحريره عام 1991 وغزو أمريكا لأفغانستان 2001 واحتلال أمريكا للعراق 2003م باحتياطيه النفطي الكبير.
وأخيراً وليس الأخير الحرب الروسية - الأوكرانية التي أحدثت تطوراً خطيراً في سلعة النفط وأسعاره خاصة في القارة الأوروبية التي تعتمد إلى حدٍّ كبير في الطاقة على النفط والغاز الروسيين، فالنفط لوحده تستورد تلك القارة منه (4.5) ملايين برميل يومياً.
واليوم أصبح العالم يعيش أزمة طاقة نتجت عنها صراعات وحروب واحتلال، ولعل غزو روسيا الأخير لأوكرانيا يبرز ذلك، ولذا فإن الصورة قاتمة متشائمة غير مشجعة وكأن النفط قد ينفد غداً، رغم عدم تأييدنا لهذه الصورة التشاؤمية عن نفاد النفط مؤيدين الصورة التي تؤيد بقاء النفط مع بقاء البشرية.
ومن يرصد السياسة النفطية الخارجية الأمريكية على مدى الستة عقود الماضية يدرك ذلك بوضوح فهناك رابط قوي بين حروب أمريكا في العالم عامة والخليج العربي خاصة فأين وجد النفط يبرز التدخل الأمريكي سلماً أو حرباً كما حدث في غزو العراق، ثم تصريح بوش الابن وبلير ورامسفلد بأن ذلك الغزو ليس من أجل النفط، فالتاريخ الأمريكي منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية يؤكد أنها دولة تدير الصراعات والنزاعات والتدخلات في شؤون الدول الداخلية وتشن الحروب من أجل النفط، وأمن إسرائيل امتداداً لأمنها القومي ويمتد ذلك إلى حلفائها في أوروبا واليابان.
تلك الدول التي تعتمد على استيراد النفط بشكل أكثر من الولايات المتحدة، وتستكمل المعادلة في الصين التي تتمتع باقتصاد كبير ينمو بقوة ويعتبر ثاني مستهلك للنفط بعد أمريكا لكن سياستها الخارجية النفطية هادئة تبتعد عن الحروب على عكس الولايات المتحدة الأمريكية التي من الممكن أن تشن حرباً من أجل رائحة النفط مثلها كسمك القرش الذي يشم رائحة الدم من على بعد مئات الأميال.
هذا رغم أن البترول ينتج في أكثر من 100 دولة حول العالم لكن تواجه دولٌ عديدة صعوبات كثيرة لزيادة إنتاجها، بل وأصبح إنتاج بعض الدول يتناقص عاماً بعد آخر، وتواجه دولٌ أخرى مشاكل عدة في العثور على النفط رغم حجم استثماراتها الكبيرة في مجال التنقيب والاستكشاف عن النفط، إلا أن دولاً أخرى احتياطيها المؤكد يزداد عاماً بعد آخر كدول الأوبك ودول الخليج العربي التي تسبح على محيط واسع من النفط، رغم أن دولتين هما فنزويلا وروسيا تسيطران على احتياطي نفطي كبير ومعهما نفط بحر قزوين، إلا أن بترول الخليج العربي يبقى الفارس الفائز بالسباق في حلبة سباق النفط العالمية.
وإذا كانت الأوبك وحلفاؤها في اجتماعهم الأخير في مقر المنظمة في العاصمة النمساوية فيينا قد اتخذوا قراراً تاريخياً نص على تخفيض الإنتاج مليوني برميل يومياً يبدأ مفعول سريانه اعتباراً من شهر ديسمبر، ويعد هذا أكبر خفض منذ جائحة كورونا.
هذا القرار جاء والمجتمع الدولي يواجه بدايات ركود اقتصادي نتيجة للهجوم الروسي على أوكرانيا، تبعه انتهاج البنك المركزي الفيدرالي الأمريكي برفع الفائدة تباعاً.
هذه الأحداث المتوالية ليس أمام الحلف النفطي سوى السعي لاتخاذ قرار مدروس بدقة فائقة، أمام هذا الركود الاقتصادي الذي ترك أثره على أسعار النفط التي بدأت مسيرتها نحو التدني فبلغ أقل من 90 دولاراً للبرميل، بعد أن بلغت 120 دولاراً وقبلها 139 دولاراً للبرميل.
القرار النفطي الذي تزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا ووقوف كل من أوروبا وأمريكا كمحور واحد ضد الروس مؤيدين الأوكرانيين، قرار (23) دولة وليس قراراً سعودياً، فالسعودية مؤسس رئيس للأوبك، وهي العمود الفقري للمنظمة لكنها ومع (قوتها) هذه لها صوت واحد يتساوى مع الجميع في قوة التصويت وليست على سبيل المثال كقانون التصويت الذي تطبقه وكالة الطاقة الدولية الذي يمنح اليونان (1) صوت وأمريكا (47) صوتاً طبقاً لاستهلاكها من النفط.
ثم إن هذا القرار يأتي رغم حالة عدم اليقين التي تحيط بعجلة الطلب على النفط وسلع أخرى تستوردها دول العالم بدون تمييز، رغم أن وكالة الطاقة الدولية تتوقع نمو الطلب على النفط لعام 2022 عند (1.8) مليون برميل يومياً، وعند الأوبك (3.36) مليون برميل يومياً لنفس العام، وبذا وقبل التخفيض يصبح الاستهلاك بحدود (100.29) مليون ب/ي.
وإذا عرفنا أن إجمالي إمدادات النفط من خارج الأوبك (65.74) مليون ب/ي لعام 2022 بينما إجمالي أوبك قبل التخفيض بحدود (28.716) مليون ب/ي، وحسب توقعات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية فإن إمدادات النفط من خارج المنظمة (65.78) وبالطبع فإن الولايات المتحدة تتصدر قائمة المنتجين من الأوبك وخارجها بإنتاجها من النفط الأحفوري والغاز الصخري (17.5) مليون ب/ي.
وإذا عرفنا أيضاً أن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية يبلغ مخزونها الاستراتيجي الإجمالي (2.6) مليار برميل، وأضفنا إلى هذا أن السوق الدولية للنفط أصلاً مشبعة بالنفط الفائض الذي يبلغ أكثر من (2) مليون برميل تبحث عن المشترين لأدركنا صواب قرار الأوبك والمتعاونين معها.
ورغم أن النادي النفطي (23) دولة مهتم بدفع عجلة الاقتصاد الدولي في مسيرة الاستقرار لهذا الاقتصاد، وتحقيق سوق عادلة تضمن سعراً عادلاً لمنتجي النفط ومستهلكيه، وقرارها جماعي وليس قراراً يخص دولة واحدة.
وهو قرار اقتصادي اتخذ بإجماع الدول الأعضاء بالأوبك والدول المنضمة لها، وتعتبر ذلك القرار إيجابياً هدفه جلب الاستقرار لسوق النفط الدولية.
الأوبك منذ تأسيسها كمنظمة اقتصادية جميع قراراتها تعتمد على تحليل بيانات سوق النفط والاقتصاد الدولي وكل المؤشرات والتوقعات التي من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على الطلب على النفط والطاقة عموماً، كما تفعل وكالة الطاقة الدولية وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية وبهذا تحدد نسبة الطلب على نفوطها والدول الأخرى بشكل اقتصادي بحت بعيداً عن دهاليز السياسة الدولية.
ورغم أن المملكة تعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة إستراتيجية كحليف تاريخي في مجالات عدة وداعمة لأمن واستقرار المنطقة العربية وخاصة منطقة الخليج العربي صاحب الاحتياطي البالغ أكثر من (800) مليار برميل (62) في المئة من الاحتياطي المؤكد عالمياً.
لذا فإنها - بلاد الحرمين - ترى فيما ذهب إليه الرئيس بايدن من قول إن قرار الأوبك (مخيب للآمال) وملمحاً إلى المملكة كحليف تاريخي كأهم عضو في الأوبك عليه يمكنها عدم خفض الإنتاج، ومن جانبه قال كبير الاقتصاديين في البيت الأبيض براين ديس نقلاً عن الرئيس الأمريكي (إن كل الخيارات مطروحة على الطاولة) واستطرد أن قرار التحالف النفطي (غير مبرر).
المتابع لوفاء المملكة مع الحليف التاريخي يتضح له أن التاريخ يقول إنه منذ ثورة الأسعار الأولى 1973 مروراً بالهزة النفطية الثانية 1979 ثم 1990، والأزمة التي كان سببها الرئيسي احتلال أمريكا للعراق 2003، قدمت المملكة الكثير والكثير دون أن تطلب كلمة شكر.
مَثَلٌ آخر في الثمانينيات والتسعينيات عندما انحدرت الأسعار إلى (7) دولارات ثم (10) دولارات المستفيد الأول الولايات المتحدة الأمريكية عندما قامت السعودية كمنتج مرجح وانخفض إنتاجها من (7.5) مليون ب/ ي إلى (2.5) مليون ب/ ي، وبلغت ميزانيتها (143) مليار ريال منخفضة من 260 مليار ريال.
أمريكا آنذاك عاشت سنوات سماناً ومعها أعضاء وكالة الطاقة الدولية ومع بلوغ أسعار النفط (القاع) بلغ المخزون الاستراتيجي لأمريكا وزملائها أعضاء الوكالة أكثر من (6) مليارات برميل وهو اليوم عند (2.6) مليار برميل.
ثم إذا كان البيت الأبيض والحزبان في ذلك البلد يطلبون من السعودية أن تقف ضد (22) دولة من أجل عيون ماما أمريكا حتى تجهض قرار تلك الدول بتخفيض الإنتاج، هذا رأي (أعوج) لايسنده المنطق، وقبله قانون الأوبك، وفيه إهدار لمصالح تلك الدول.
بل وقد يؤدي إلى انفراط عقد الحلف النفطي الذي تكوّن بعد مسيرة حوارات واجتماعات عديدة خرج من رحمها هذا الحلف.
إذاً بلاد الحرمين الشريفين رغم انها أيدت هذا القرار والعقل والمنطق والقانون وسياسة النفط إنتاجاً وتسعيراً الذي بلغ بعد قرار التخفيض عند كتابة هذه الأسطر (92) دولاراً لخام برنت و (86) لغرب تكساس.
ويبقى القول إن على الإدارة الأمريكية وصناع السياسة والمشرعين في ذلك البلد - القوة العظمى - أن يتحلوا بالحكمة وبعد النظر في التعامل مع شريك استراتيجي تاريخي يعود لعام (1933) والاعتراف أن الأمس غير اليوم.
وأن العالم يمر بتغيرات سريعة التأثير والتأثر وأن جميع الأبواب مشرعة لدولة في حجم بلاد الحرمين.
وإذا كانت السياسة علماً وفناً وينطبق ذلك على الإدارة والاقتصاد فإنه ينسحب على الدول وبلادنا فهي اليوم قبل البارحة كانت دولة قوية بقيادتها ومواردها وهي اليوم أقوى.. وستبقى بلاد الحرمين الشريفين منارة هذه البلاد والعرب والمسلمين.
وعلى أصدقائنا وحلفائنا الأمريكيين فهم هذا فهو الطريق الأفضل لدعم العلاقات وليس التلويح بتهديدات أو عقوبات حتى لا تنقلب على صاحبها.
أخيراً رسالة لأصدقائنا وحلفائنا الاستراتيجيين والتاريخيين لأكثر من ثمانية عقود.
نحن في المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد المؤسس والموحد الملك عبد العزيز رحمه الله عام 1351 الموافق 1933م.
نحترم وعودنا ومواثيقنا ومعاهداتنا مع الأشقاء والأصدقاء.
لكننا لانقبل اللوم أو التهديد والوعيد ونرفض الإملاءات مهما كان مصدرها.
ونقدر المصالح المشتركة في العلاقات بين الدول التي لا تمس السيادة فهي خط أحمر عندنا وستبقى.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة