اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
لقد ذهب بعض المنظِّرِين عند تناوله لموضوع القيادة إلى المغالاة في الشق الفني واصفاً القيادة بأنها فن بحت يعتمد على الموهبة الشخصية والسجايا الفطرية، متجاهلاً العلم وماله من أثر بالغ في تنمية الموهبة وصقلها والمساعدة على اكتسابها، كما ذهب البعض الآخر إلى التركيز على أهمية العلم والتقليل من شأن الموهبة والملكة القيادية التي تتوفر لشخص دون آخر.
والواقع أن كلاً من الرأيين تنقصه الدقة المطلوبة حيث إن ذلك لا يمكن إخضاعه للبحث التجريدي بقدر ما يخضع للواقع التجريبي الذي يقف شاهداً على أن من يرى أن القيادة موهبة لا ينكر أهمية العلم ومن يعتبرها علماً لا يمكن أن يتجاهل الموهبة نظراً لأن صقل الموهبة والاستعداد الفطري يتطلب سعياً متواصلاً وجهداً جهيداً للمحافظة على مؤهلات القيادة وقواعدها ذات الطابع الموروث والسمة الفطرية في الوقت الذي يصعب فيه تلقي أسس وقواعد علم القيادة ومهاراتها المكتسبة في غياب الرغبة الفطرية والميل الموهوب لتعلم تلك القواعد وتطبيقها والسير على هديها.
ومن هذا المنطلق فإن القيادة فنٌّ وعلمٌ وموهبةٌ وتحصيلٌ ومهما توافرت للقائد الموهبة والموروث الفطري من السمات والسجايا القيادية، فلن ينجح في قيادته إذا لم يؤطر فن القيادة بالعلوم الإنسانية المتمثلة في علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الإدارة وعلم الاتصال وما في حكمها من العلوم والمعارف التي يحتاج إليها القائد لصقل موهبته وزيادة تأثير شخصيته.
وفن القيادة مركب من مجموعة من الفنون المختلفة الأبعاد والمتنوعة الأنماط ومنها فن الاتصال والتواصل وفن الإقناع وفن الخطابة وفن إصدار الأوامر وفن المراقبة والمتابعة وفن التشجيع والثواب وفن التأنيب والعقاب وغيرها من الفنون المترابطة فيما بينها التي يتعين على القائد الذي يتطلع إلى النجاح في قيادته أن يعززها بالعلم والتحصيل، وأن يجسدها من خلال أفعاله قبل أقواله متوجاً إياها بسلوك القدوة وحسن الأسوة على النحو الذي يجعله عند مخاطبة أتباعه يجمع بين لغة العقل ولغة القلب لكي يضيف إلى فن الإقناع فن تحريك المشاعر، وقد قال أحد الفلاسفة: خطاب القائد هو وسيلة التواصل الفعالة مع أتباعه وعليه فإن ترتيب كلماته سوف يرتب معانيها، وترتيب المعاني سوف يضاعف تأثيرها.
والتخطيط بعيد المدى المبني على رؤية مستقبلية وما ينتج عن ذلك من خطط وقرارات يعتبر من أهم فنون القيادة وجزءاً أساسياً من شخصية القائد لما يترتب على هذا الأمر من ضمانة أكيدة لقوة تأثير شخصية القائد وبناء رابطة قوية بينه وبين أتباعه، خاصة عندما يؤسس هذا التخطيط على موهبة فطرية وسجايا طبيعية ذات مرجعية أخلاقية تحول دون انحراف بوصلة القيادة عن اتجاهها وتضمن التزام القائد تجاه أتباعه والمصلحة العامة.
وفن الإقناع يتم إتقانه بالدراسة والممارسة والشخصية المؤثرة ذات الجاذبية، والبلاغة الخطابية تمثل أهم عامل للإقناع نظراً لأن المُقْنِع المثالي هو الذي يلتزم بمبادئ الإقناع المتمثلة في تحديد الهدف والإصرار على الوصول إلى النتيجة المطلوبة مع التأكيد على المصلحة العامة ومعرفة المطلوب إقناعه والبعد عن الكذب والتضليل والتحلي بمكارم الأخلاق انطلاقاً من أن المرء يعرف من سلوكه والإقناع بالمثل والقدوة أفضل وسيلة للإقناع.
وثمةَ صفة مشتركة تجمع بين القادة البارزين في التاريخ وهي القراءة التي تلهمهم الإبداع والابتكار وتصقل مواهبهم بالشكل الذي يجعلهم في حالة استعداد دائم لاتخاذ القرارات وتحقيق الأهداف بفضل استقراء الماضي ودراسة الحاضر والاستعداد للمستقبل والتعمق في تناول موضوع القيادة بشقيه النظري والعملي، توطئة لمعرفة ما يجب عمله واتخاذ القرار الحاسم والإجراء المطلوب، وقد قيل: إن القراءة والدرس معناهما العيش في صحبة شخصيات العصور الغابرة، وقيل: المطالعة مفتاح المعرفة ومصباح الأدب والحكمة، وقد قال جون كندي: القيادة والتعلم لا غنى لأحدهما عن الآخر.
والقراءة والمعرفة هما الغذاء الروحي بالنسبة للقيادة ولا يمكن الفصل بين القيادة وفنونها وبين الاطلاع على تجارب وخبرات القادة، وقراءة التاريخ الذي هو المعلم الأول لكل أساليب السلطة وهو الداعي إلى خيرها والمحذر عن شرها، وقراءة التاريخ تعني الاطلاع على سير القادة والحس القيادي الذي تتضمنه هذه السير لأن القائد الذي يجهل التاريخ يجهل أسرار وأصول القيادة، وقد قال كونفوشيوس: مهما كان القائد مشغولاً ومزدحماً يجب عليه أن يخلق الوقت كي يقرأ وإلا فإنه يحاصر نفسه بالجهل باختياره قبل أن يحاصره أعداؤه. وقد قيل: القائد الذي يجهل التاريخ يكرر كل الأخطاء. وقال هاري ترومان: على القائد أن يقرأ الرجال الذين في التاريخ لا أن يقرأ التاريخ وكما قال الشاعر:
ليس بإنسانٍ ولا عاقلٍ
مَنْ لا يعي التاريخ في صدره
ومَنْ درى أخبار من قبله
أضاف أعماراً إلى عمره
والحديث عن القيادة بين الفن والعلم يقود إلى الحديث عنها بين الموهبة والاكتساب لأن العناصر الأربعة يتفاعل كلٌّ منها مع الآخر تبعاً لهمة القائد وهمومه، وما تمليه عليه المواقف والظروف، وكيف يتصرف حيال ذلك، متسلحاً بفنون الموهبة، ومستفيداً من العلوم والمهارات المكتسبة انطلاقاً من أن الفن يعتبر نتاج الموهبة والاكتساب ثمرة من ثمار العلم والتجربة.
وتأسيساً على ذلك فإن القيادة تجمع بين الموهبة الفطرية وسماتها والمهارات المكتسبة وصفاتها، وتتمثل الأولى في شخصية القائد الجاذبة والمؤثرة، وما يتمتع به من النفوذ والحكمة وسرعة البديهة والاهتمام بالأتباع في حين تتمثل الثانية فيما يمكن اكتسابه وتعلمه من خلال الدراسة النظرية والممارسة العملية على النحو الذي يتضح منه أن القيادة بقدر ما هي فن يحتاج إلى براعة مهارة وإتقان فإن هذا الفن يُكتسب بالعلم والتعليم ويُنمى بالخبرة والتدريب.
وإذا كان الأمر يستدعي ما قرع بابه وجذب أهدابه فإنه يجب التمييز بين القيادة والإدارة، فالأولى تكون الغلبة فيها لفن الموهبة والإبداع الفطري مع الاستفادة من العلم والتجربة والخبرة، حيث إن القائد يستمد سلطته من نفوذه وتأثيره الشخصي وسماته القيادية، بينما في الإدارة يعتمد المدير على السلطة والصلاحية الممنوحة له في بيئة ذات طابع نمطي وممارسات إجرائية لا مكان فيها للموهبة القيادية والموروث الفطري المؤثر.
وزيادة في التوضيح فإن القيادة تهتم بالأتباع والأمور الإستراتيجية والتخطيط والرؤية والأخذ بأسلوب القدوة في الوقت الذي تهتم فيه الإدارة بما تمليه السلطة والأداء الرتيب والإنجاز النمطي الوقتي دون النظر إلى المستقبل.
وترتيباً على ذلك فإن الإدارة تركز على ما هو موجود في حين تعمل القيادة على إيجاد غير الموجود، فالمدير يُطلب منه تنفيذ عملية قائمة وحل مشكلة في المتناول حلها، بينما يقوم القائد بالاستجابة المبتكرة لحل مشكلة مستعصية عن طريق اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب مع ملاحظة إن بإمكان القائد أن يكون مديراً وليس من الممكن أن يكون المدير قائداً وقد قيل: إن الفرق بين القائد والمدير هو أن القائد يعمل في العلن والمدير يعمل في السر والأول يقود أتباعه والثاني يسوق عماله.
وفي الختام فإن القيادة فن وعلم والإدارة تحتل مكاناً من علم القيادة وتلعب دوراً في تكملة العمل القيادي وإنجاز الأعمال المطلوب إنجازها في الوقت الحاضر، بما يفسح المجال للقائد للتخطيط للمستقبل ووضع الإستراتيجات لمواجهة الأزمات والمعضلات المستعصية وتقديم الحلول المناسبة لها مع الاهتمام بالعمل الجماعي والمشاركة الجماعية من قبل الأتباع الذين أتاح لهم القائد فن المشاركة، وقد قال هانيبعل: القائد إما أن يجد الطريق أو يخلق الطريق؛ وقد قيل الإدارة نصف القيادة.