حاربت الشريعة ورسالات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كافة وكافحوا الفسادَ العقدي والأخلاقي والمالي والسياسي والإداري وخلافه، وكل رسول كريم يأتي يعالج ويكافح الفساد السائد في مجتمعه، ويدخل في هذا الباب الأقوام غير المسلمين الذين يعانون من الفساد كما نعاني نحن المسلمين غير أننا نرجو من ربنا ما لا يرجون..
ولا مانع من النظر في بعض طرائقهم الحديثة والتعلم منها ومحاكاتها..
إن دعوة التعايش مع الفساد بكل صوره ممنوعة، والتعايش مع الطاعات ومكارم الأخلاق بأشكالها كافة مشروعة. إذ العبرة بالمقاصد والمعاني وليس بالألفاظ والمباني وموافقتها الكتاب المطهَّر والسنة النبوية الشريفة، والمعروف ما استحسنته العقول الراشدة والنقول الصحيحة ولو خالف أهواء الناس.. وعكسه المنكر والقبح ولو وافق أهواء الناس.. ومقالة الإمام الشافعي - غفر الله له ولنا -: «مَن استحسن فقد شرَّع) بارعة في هذا الباب..
مِن أعلى شعب الإيمان إلى أدناها مساحة واسعة علينا تمرين الناس عليها باستمرار، والتذكير بها والتكرار..
رمي المخلفات وعدم إماطة الأذى عن الطرقات بحجة (لا شأن لي) وغيرها من الحجج؛ فهذا فساد ومعصية وتطبيع يُراد، كما أنّ رمي الذات الإلهية وكلمة التوحيد وأهله المتمسكين بها وبشعائرها عبر حرية الرأي والتعبير وغير ذلك من الحجج، هذا فساد ومعصية ومنكر شنيع وعظيم وتطبيع يُراد.!
إنّ دعوات التعايش بين الطاعات والمعاصي ليس المقصود أن الناس لا يقعون في المعاصي ابتداء، ومن يقول بهذا فهذا مصادم للسنن الكونية، والأحاديث النبوية الشريفة، ولسنا نقول بهذا، وإنما المقصود السكوت عنها، وفي مرات المجاهرة بها، ومرات أخرى رمي الداعين لمحاربتها بأشنع الأوصاف والتنكيل بهم، ومن ثم تطبيع الجماهير عليها عبر (سياسة النفس الطويل) التي تُسيطر على العقول وتغير السلوك بعد مدة طويلة لا يشعر بها أحد، والتي كتب عنها جوزيف ناي في كتابه «القوة الناعمة» بناءً على مقولة المثل الإنجليزي: (بطيء.. بطيء.. لكنه أكيد المفعول).
وهي من التغيير الناعم والأحلام الوردية والوعود والأماني الشيطانية والكثير عنها غافل أو سادر أو لها سائر..
هذا الأمر واضح في القصص القرآني وتاريخ الأمم والشعوب، وفرق بين أن يوجد الشيء، وبين أن يكون مقبولاً شرعاً.. فلنتنبه.. {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (82) سورة الأعراف، {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} (87) سورة هود، قالوا ذلك استهزاءً به، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام.
رسالتهم: (التطبيع مع المنكَر، والتشنيع على المنكِر!)
في الآية الأولى التركيز على الفساد الأخلاقي، والثانية التركيز على الفساد الديني والمالي، مما يشعرنا أن التطبيع يستهدف مكونات المجتمع من أعلاه إلى أدناه. إن (التركيز) يختلف عن (الانتقاء) وإلا سوف نعتبر هذا من الفساد أيضاً.
أبو التطبيع ليس هو الفيلسوف الإنجليزي جون لوك كما يظن بعض الناس الذي روَّج لكثير من الأفكار المضللة المصادمة للثوابت الشرعية، وافتتن بها جماهير المسلمين من شبابنا وفتياتنا - حرسهم الله -، وإنما أبو التطبيع حقيقة هو الشيطان الرجيم! الذي له عراقة بهذا الأمر منذ الخليقة إلى قيام ساعة الأفراد أو المجتمعات.. (تخيل!)
نحتاج دائماً وأبداً من الله - جل وعز - إلى أمرين: الهداية والمعونة. ثم الكفاح المستمر والتطبيع المضاد والاحتساب الشرعي المنضبط داخل مقاصده الجليلة وحِكمه النبيلة.
من الحلول أيضاً الانتباه إلى صندوق المعاذير المختلفة: كل الناس يفعلون هذا.. لو كان هذا العمل سيئاً ما فعله فلان، أو لما سكت عليه العالم، أو ما سمحت به الوزارة أو ما عملت به الحكومة. أو يقال: في المسألة قولان!، وكل يؤخذ من قوله ويرد.!
إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بلزوم الاستقامة حين قال جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (112) سورة هود. منهج واضح بيِّن، ورسالة مختصرة كما (أُمِرتَ)، لا كما أَردتَ أو اشتهت نفسك..
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «ما نزل على رسول الله آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية»، ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب.. «شيّبتني هود وأخواتها».
والأصل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - مرفوعاً يقولُ: (مَن رَأَى مِنكُم مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بيَدِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ).. رواه الإمام مسلم. لاحظ هنا، القلب له عمل كالجوارح تماماً، بعد العجز عن المرتبتين وفق الحِكَم الشرعية والمقاصد المرعيَّة.
من المناسب ننقل لكم أجزاء من خطبة الجمعة من الحرم المكي الشريف 17-2-1443 معالي الشيخ الدكتور/ صالح بن عبدالله بن حميد - رعاه الله -
(معاشر المسلمين: ومن أعظم ما يُستهدَف في التربية، إقامةُ بناء الشخصية في الناشئة، والاعتزاز بالقِيَم، والاعتداد بالنفس، والبعد عن التقليد المميت، والحذر من الاندفاع وراءَ مهازيل المشاهير؛ في مَلبَس أو مَطعَم أو سلوك؛ فالعزة لله ولرسوله، وللمؤمنين، ولكنَّ المنافقينَ لا يعلمون، اغرسوا فيهم أن الباطل باطل، ولو كثر أتباعه، والحق حق ولو قل أتباعه، راية الحق قائمة وإن لم يرفعها أحد، وراية الباطل ساقطة ولو رفعها كل أحد، والحرام حرام ولو فعله كل الناس، المرء بآدابه لا بثيابه، وبدينه وخلقه لا بنسبه وقبيلته).
كما رأينا من تجاوزات في العالم الإسلامي الذين ينتهجون التكفير والتفجير، رأينا أيضاً تجاوزات الذين يفجرون القيم، وينسفون بأقلامهم ثوابت الأمة ومقدساتها.
إنّ الغلو واضح جلي، كما هو في الجفاء..لا فرق!
بعد هذا الشوط الطويل نؤكد ضرورة رعاية القلب باستمرار وطلب المدد والمعونة من الله..
لا نقلل من (عمل القلب) أبداً.. (القلب يعمل) دائماً..! هذا أمر يغفل الناس عنه، وفي المثل: (مِنْ مأمَنِهِ يُؤْتَى الحَذِرُ).
الطريق طويل يحتاج إلى رفاق جيدين، والرفاق يحتاجون لزوم الطريق الصحيح والتواصي عليه.
ثم إن هؤلاء جميعهم يحتاجون في كل حال إلى الله العلي القدير..
الله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.