محمد سليمان العنقري
لعل أجمل وصف من قبل العديد من المعلقين بالشأن السياسي لبيان وزارة الخارجية السعودية للرد على ادعاءات ومغالطات الحكومة الأمريكية حول قرار تخفيض إنتاج النفط من قبل تحالف أوبك+ بأنه درس بالسياسة لأنه حمل توضيحاً شفافاً للحقائق وكان درساً بمفهوم السيادة للقاصي والداني فقد جاء فيه أن «المملكة لا تقبل الإملاءات وترفض أي تصرفات أو مساعي تهدف لتحوير الأهداف السامية التي تعمل عليها لحماية الاقتصاد العالمي من تقلبات الأسواق البترولية» فالعمل الذي تقوم به السعودية في سوق الطاقة العالمي من خلال دورها بقطاع النفط أسهم بحماية الاقتصاد العالمي من هزات كبرى فيما لو حدث شح بإمدادات النفط وذلك من خلال استراتيجيتها بالاستثمار بالاستكشاف لزيادة الإنتاح ودعم الحفاظ على توازن السوق على مدى عقود طويلة بالوقت الذي أدت فيه سياسات الدول المتقدمة بخفض استثماراتها بالنفط والغاز والتكرير إلى تعقيد المشهد بأمن الطاقة لديهم رغم أن المملكة وبمناسبات عديدة حذرت من تراجع الاستثمارات عالمياً بالنفط وضررها على المدى المتوسط والبعيد.
فالبيان أكد على أن القرار أخذ من منظور اقتصادي بحت وبتوافق من كافة الدول الأعضاء بالمجموعة بهدف الحفاظ على توازن العرض والطلب منعاً للتقلبات الحادة بالسوق التي تضر الاقتصاد العالمي وبما يمثل خدمة للمنتجين والمستهلكين وهنا لابد من الإشارة إلى أن التقلبات الحادة بالسوق تؤدي لانخفاض الاستثمارات بالنفط وهو ما ينعكس سلباً على شح المعروض قياساً بنمو الطلب مستقبلاً مما سيؤدي حتماً لارتفاع سريع ولمستويات غير مسبوقة بأسعار النفط وهو ما لا يمكن أن يتحمله الاقتصاد العالمي بعد جملة من الأزمات المالية والاقتصادية التي مر بها خلال العقدين الماضيين ويعيش أعقدها حالياً, فمن صالح الطرفين المنتج والمستهلك استقرار السوق وتدفق الاستثمارات ليواكب العرض نمو الطلب وتوفير طاقة إنتاجية احتياطية عالمية تستخدم عند الضرورة أو وفق آليات تقنية متعارف عليها عند صيانة الحقول بما لا يقلص المعروض.
إن صناعة النفط تعد إحدى أهم داعمي نمو الاقتصاد العالمي من خلال تدفق مئات المليارات للاستثمار والصيانة بها سنوياً وتوفيرها لعشرات الملايين من فرص العمل بقطاعات عديدة مرتبطة بها بخلاف دورها المحوري بتشغيل الاقتصادات العالمية سواء بقطاعات النقل أو إنتاج الطاقة أو المشتقات البتروكيماوية وغيرها فعالم بدون طاقة والنفط تحديداً لن تدور محركات النمو فيه وبنفس السياق أكد البيان أن قرارات أوبك + تتخذ باستقلالية تامة وفقاً لما هو متعارف عليه من ممارسات مستقلة للمنظمات الدولية وهذا تأكيد أن القرار أخذ من منظور اقتصادي بنقاش دول تعد الأعلى خبرة بصناعة النفط إذ لا يمكن أن تمتلك الإدارة الأمريكية رؤية وقراءة للسوق النفطية وصناعتها بأكثر دقة من الدول الثلاث والعشرين أعضاء المجموعة, فلو جمعنا خبرات هذه الدول مجتمعةً لفاقت الألف عام فكل دولة تمتلك خبرة لا تقل عن 60 عاماً وبعضها قارب أو فاق مائة عام من الخبرات فهم من يستثمر تريليونات الدولارات بصناعة النفط وتعد رافداً أساسياً للموارد لديهم وداعماً رئيسياً للتنمية بدول أوبك+ والتي تنعكس على زيادة الطلب من السلع والخدمات التي تستورد من دول عديدة من أكبرها أميركا ثاني دولة بحجم التجارة الدولية بعد الصين أي أنها مستفيدة من نمو اقتصادات دول أوبك + وبمئات المليارات سنوياً كتبادل تجاري, فلدول المجموعة مصلحة عليا بنمو الاقتصاد العالمي لأن ذلك يعني مزيداً من الطلب على الطاقة فلا يمكن أن يتخذوا أي قرار يخالف مصلحتهم العليا.
فدول أوبك + سياستها المعلنة والتي تستهدف تحقيقها دائماً توازن السوق ولا تتحدث عن الأسعار فهي متروكة لتداولات الأسواق على أساس العرض والطلب بينما لا تتحدث أميركا عن دور المضاربين السلبي بأسواقها ممن يؤثرون بأسواق السلع عموماً ويستفيدون من التغيرات التي تقوم بها كبرى البنوك المركزية بالعالم وعلى رأسها الفيدرالي الأميريكي من خلال خفض الفائدة والتيسير الكمي اللذين أصبحا المسيطرين على أغلب السنوات خلال هذا القرن أي منذ عشرين عاماً وحتى بالاتجاه لسياسة نقدية متشددة تحدث أيضاً أضراراً كبرى بتلاعب المضاربين بالأسواق بخفض أسعار النفط مما يقلص الاستثمارات بصناعة النفط ويؤثر على العرض مستقبلاً، لكن ما يلفت النظر بالبيان ما ذكر بأنه تم التشاور مع الحلفاء والشركاء من خارج أوبك+ من منطلق أهمية الحوار معهم حيال أوضاع السوق البترولية وقد أوضحت حكومة المملكة خلال التشاور المستمر مع الإدارة الأمريكية أن جميع التحليلات الاقتصادية أكدت أن تأجيل اتخاذ القرار لمدة شهر حسب ما تم اقتراحه سيكون له تبعات اقتصادية سلبية.
وهنا تستوقفنا عدة نقاط فالسؤال الذي طرحه المحللون والإعلام الأمريكي لماذا اقترحت الإدارة الأمريكية مدة شهر وليس أقل أو أكثر؟ مما جعلهم يربطونها بالانتخابات النصفية للكونجرس في 8 نوفمبر القادم حيث تشير استطلاعات الرأي لاحتمال فوز الجمهوريين بأغلبية مجلسي النواب والشيوخ إذ يسعى الحزب الديمقراطي لمعالجة بعض الملفات الاقتصادية ومنها التضخم ولو بشكل مؤقت قبيل الانتخابات فالأمريكيون أساس توجههم للانتخاب ينبع من الشأن الاقتصادي، لكن السؤال الأهم إذا كانت أمريكا تطلب التأجيل لشهر فهذا يعني أنها «مقتنعة بالمبررات الاقتصادية» التي على أساسها اتخذت أوبك بلس قرارها, فلماذا يظهرون هذا التناقض بردة فعلهم على القرار؟ فالرئيس بايدن قال إن اقتصاد بلاده الذي يمثل حوالي 23 بالمائة من الاقتصاد العالمي سيتعرض لركود كما أكد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بتقارير عديدة باحتمال دخول اقتصادات كبرى بركود العام القادم, وخفضوا نمو الاقتصاد العالمي إلى 2 بالمائة من 2،9 كما أن وكالة فيتش وبنوك أمريكية عديدة أصدروا تقارير تشير لتوقعهم تراجع الطلب على النفط لعام 2023 وأكدت ذلك وكالة الطاقة الدولية وكلها جهات تتبع أمريكا أو ذات صلة بها, فبيان الخارجية أكد أن معالجة التحديات الاقتصادية تتطلب إقامة حوار بنّاء وغير مسيّس والنظر بحكمة وعقلانية لما يخدم مصالح الدول كافة.
أوضح البيان أن تصريحات الأمريكيين المؤسفة حول موقف المملكة من أزمة روسيا وأوكرانيا فيها طمس للحقيقة فقد صوتت المملكة بتأييد قرارات الأمم المتحدة حول الأزمة من منطلق التزامها بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي ورفضها لأي مساس بسيادة الدول على أراضيها، كما أكد البيان على أن المملكة علاقتها مع أمريكا تنطلق من منظور استراتيجي يخدم المصالح المشتركة للبلدين بناءً على علاقة ممتدة لثمانية عقود من التعاون، وهو ما يوضح شمولية البيان وعمق أبعاده واللغة الرصينة التي تعكس نهج المملكة الثابت بدعم التنمية الدولية وإقامة أفضل العلاقات مع الأشقاء والأصدقاء بما يخدم الاقتصاد والسلم العالميين، بعكس بعض المسؤولين الأمريكيين مثل جون كيربي من مجلس الأمن القومي الذي قرأ القرار ببعد سياسي فهو يريد أن تنهار أسعار النفط لتوقف روسيا حربها على أوكرانيا غير مهتم بتبعات ذلك من ضرر لاقتصادات الدول المنتجة للنفط واحتمال توقف أغلب الاستثمارات مما يعني شح المعروض النفطي بالمستقبل وارتفاع الأسعار مجدداً لمستويات غير مسبوقة إضافة إلى أن الدول المنتجة ستضطر لخفض الإنتاج مستقبلاً بكميات عالية لكي تستعيد السوق توازنها كما حدث في 2020 بينما لا يسمع كيربي لمعاناة حلفاء بلده التاريخيين في أوروبا الذين يدفعون أربعة أضعاف ثمن الغاز الذي تبيعه أمريكا لهم قياساً بالأسعار التي تباع للمصانع داخلها واشتكت من ذلك ألمانيا وفرنسا علناً, فمصالح الدول ليست على مقاس أو مزاج المصالح الأمريكية الضيقة وتوجهاتها فليس بالضرورة أن توقف روسيا الحرب إذا تقلصت مواردها من النفط لأنها تستطيع تعويض ذلك بموارد أخرى كالمعادن والسلع الغذائية والغاز وبأسواق جديدة, فالعالم يحتاج للحوار وليس الاستفزاز كما فعلت أمريكا أيضاً مع الصين مؤخراً بتايوان أو ببعدها عن دعم الحل السياسي في حرب روسيا على أوكرانيا أو بأزمتها مع فرنسا عندما تحولت صفقة الغواصات الأسترالية من فرنسا لأمريكا.