شيرين ميخائيل
يتجه العراق حالياً إلى نفق مظلم إذا لم يكن قد دخله بالفعل، وذلك منذ فترة طويلة بسبب عدم الاستقرار والفوضى السياسية التي يعيش فيها العراق منذ زمن بعيد. فلو أننا تتبعنا الواقع العراقي (باستثناء إقليم كردستان) سوف يتضح لنا أنه لم يعرف الاستقرار، وذلك منذ دخول القوات الأميركية إلى العراق في عام 2003.
حيث تم إسقاط نظامه وحل جيشه ومؤسساته، مما دفع بأجهزة العراق المنحلة إلى جيوش عاطلين، أو توجهوا لمقاومة العملية السياسية، فأمسى العراق في مهب ريح الفوضى الخلاقة، من مجلس الحكم الذي قد منح للشيعة وبقية العراقيين، وسط انقسام داخلي، ارتكز على قناعة راسخة أن حسم المعارك على نموذج العراق الجديد، لن تحسم إلا بالاستناد إلى الدعم الخارجي.
لقد جعلت الفوضى الخلاقة العراق والشرق الأوسط في مواجهة عاصفة النظام الدولي الأحادي الجديد الذي تزعمته الولايات المتحدة، وذلك بعد نهاية الحرب الباردة، والذي سبب تغييراً كبيراً في العراق والمنطقة، وهذا ما أحدثته أيضاً الفوضى الخلاقة على المستوي الإقليمي بعد 2011، وذلك كله من تخطيط الولايات المتحدة الأمريكية.
ومنذ دخول القوات الأمريكية إلى العراق، وعدم الاستقرار مستمر حتى بعد خروجها، والوضع مستمر حتى الآن في أزمة تلو الأخرى، حتى أن وصل الأمر بالعراق إلى صعوبة التوافق على تشكيل حكومة جديدة، تتحمل مسؤولية البلاد. وقد بلغ الأمر إلى أن الزعيم الشيعي مقتدى الصدر قد أعلن في 12 يونيو 2022، استقالة نواب تياره السياسي، والذين بلغ عددهم 73 نائباً من البرلمان الجديد، وهي خطوة أضافت الكثير من التعقيد والتأزم في مجريات العملية السياسية في العراق، والذى ما زال يعانى منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة في أكتوبر 2021، حالة من الانسداد السياسي الكامل، وذلك كنتيجة لاستمرار المواقف المتصلبة من جانب القوى السياسية تجاه عملية انتخاب الرئيس، وتشكيل الحكومة؛ وذلك لأن تحالف «إنقاذ وطن» الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، يرغب في أن يتم تشكيل حكومة بناء على «أغلبية وطنية» من القوى الفائزة في الانتخابات الأخيرة، بينما على الجانب الآخر يرغب «الإطار التنسيقي» -الذى يضم كتلاً شيعية موالية لإيران- في أن يتم تشكيل حكومة «توافقية»، تضم كل أطراف القوى السياسية، على أسس طائفية، وليس انطلاقاً من الأوزان الانتخابية، على أن يتم توحيد القوى الشيعية كلها، بما فيها التيار الصدري، في تحالف حاكم واحد، مثلما كان يحدث في الحكومات الشيعية السابقة، وذلك من منطلق أن ما يسعى إليه التيار الصدري بشأن تشكيل حكومة «أغلبية وطنية»، سوف يؤدي إلى «انقسام» القوى الشيعية، ولأول مرة منذ انتخابات عام 2006، إلى قوى ممثلة في الحكومة، وقوى أخرى في المعارضة، وهو بالطبع الأمر الذى يتعارض مع رغبة إيران التي تملك التأثير الأقوى في المشهد السياسي العراقي، حيث يوفر لها بقاء الكتلة السياسية العراقية الشيعية «موحدة وواحدة»، أن تنفذ متطلبات مشروعها الإقليمي في حلقته العراقية بشكل فعال. وهنا يكمن الخلاف علي تشكيل الحكومة الجديدة والنفق الذي دخلت فيه العراق.
وعلى مدار الثمانية أشهر الماضية، كان الطرفان «إنقاذ وطن» (155 عضواً برلمانياً)، و»الإطار التنسيقي» (83 عضواً برلمانياً) يتبادلان الاتهامات حول مسئولية كل طرف عن زيادة الأزمة السياسية، بأنه الطرف الذي يقوم بتعطيل عملية انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة، نتيجة لعدم اكتمال النصاب القانوني المطلوب برلمانياً لانتخاب الرئيس (220 من إجمالي 329 صوتاً برلمانياً)، عبر ثلاث محاولات فاشلة، تخطت المدد الدستورية كافة، لعبت خلالها قوى «الإطار التنسيقي» -التي نجحت في استمالة عدد من النواب المستقلين، مما مكنها من تشكيل تكتل يبلغ قوامه 110 أصوات برلمانية- دور «الثُلث المُعطِّل» فعلياً لعملية انتخاب الرئيس، وهي الخطوة الرئيسية في مسار تسمية الكتلة البرلمانية الأكبر -165 نائباً- التي يحق لها تشكيل الحكومة. وبعد هذه المناوشات بين الطرفين، جاء قرار الصدر الأخير بسحب تياره السياسي الممثل برلمانياً بـ73 مقعداً، وبذلك عكس العديد من الدلالات والتداعيات التي ستكون لها تأثيراتها الحادة على طبيعة التجاذبات السياسية بين القوى والتكتلات الحزبية المتنوعة خلال المرحلة المقبلة، وهو يطرح تساؤلات عدة حول مستقبل العملية السياسية في العراق بعد «خلو» الساحة من الصدريين.. فهل تنجح قوى «الإطار التنسيقي» في تشكيل الحكومة منفردة، خاصة أن استقالة تيار الصدر تخرجه من موقع المعارضة البرلمانية؟ أم سيظل العراق حبيس أزمته السياسية على مدار السنوات الأربع المقبلة؟
لذلك فقد اتفق الجميع على ألا يتفقوا، كل تيار يأخذ قرارات من شأنها تعميق وزيادة الأزمة، وليس أثرية المسافات ووجهات النظر حتى يتم الأمر وتتشكل الحكومة.
وهذا بالطبع يفتح الباب لكل المؤثرات الخارجية التي تهدف إلى استمرار عدم الاستقرار في العراق، وهو ما تريده ايران لأنها المستفيد الأول من هذا، حيث تريد أن يتم تشكيل الحكومة وفقاً لما تريد فقط، وليس هناك على الساحة ما يردعها، نظراً للتنازع القائم بين التيارات السياسية الموجودة على الساحة السياسية في العراق، وسوف تفشل كل هذه المحاولات طالما أن الصراع مستمر بينهم ولا يتوقف، وهذا سيجعل العراق داخل النفق المظلم لفترة طويلة.