حمّاد بن حامد السالمي
هل مرّ بك يوم لم تسمع فيه كلمة حظ..؟ أو من يقول: هذا بخت، وقسمة ونصيب؛ إيجابًا أو سلبًا..؟ وقليل ما نسمع استخدامًا لمفردة (الجَدّ)، وهو من أسماء الحظ الفصيحة. جمعني مجلس بعدد من أصدقائي؛ فما مرت ساعة أو ساعة ونصف؛ إلا وقد سمعت أكثر من واحد يكرر مفردة الحظ في كلامه. لا أظن إلا أن مفردة الحظ ملازمة لبني البشر ليل نهار على كافة مشاربهم وثقافاتهم؛ فهذا محظوظ، وهذا تعيس حظ، وإخوتنا في المغرب العربي الشقيق؛ يطلقون على الحظ السعيد (زِهَر) فيقولون: (أنا عندي الزِّهَر.. أو ما عنديش الزِّهَر).
* جاء اسم (الحظ) في القرآن الكريم سبع مرات، وتكرر اسم: (النصيب إحدى وعشرين مرة)، وخصص علماء اللغة مفردة الحظ والنصيب على ما فيه خير وفضل، فحظ قارون؛ وصفه القرآن الكريم بالحظ العظيم، وحظ الآخرة هو جنة النعيم، وهناك حظ المواريث- بمعنى نصيب- في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ}. ومع ذلك؛ فإنه لا يخلو الأمر من استخدام سلبي لمن جرب وخاب، أو فشل وتعثر. فهذا: لا حظَّ له من علم، أو يقولون: (حظٌّ في السحاب، وعقلٌ في التراب)، لمن عظُم حظُّه وقلَّ عقلُه. فالحظ في هذه الحالة؛ من الكلمات التي يرددها كثير من الناس عندما يفشلون في أداء عمل أو إنجاز مهمة، أو عندما يكبو بهم قطار الحياة في أي مرحلة من مراحل محطاته. على أن الإنسان؛ يمكن أن يصنع الحظ الجيد بالتفكير الناضج في تحديد هدف واقعي، والعمل الجاد والمخلص على تحقيقه، فالحظ لا يأتي من خلال انتظار الصدفة وحدها. يقول الدكتور (أرنولد دي ماير) في كتابه: (منطق الحظ): (الحظ مجرد لعبة تخضع لما يتخذه الإنسان من قرارات، تحقق مصالحه، وتجعله محظوظًا). فالحظ الجيد إذن؛ هو نتيجة لما يُتخذ من قرارات إيجابية، ومزيد من العمل الجاد لمصلحة الفرد والمجتمع.
* إن نظرتنا إلى الحظ وحقيقته؛ تتحكم بمسار حياتنا، ولها دور كبير في قراراتنا، فمنا اليائس من حظه، الذي لا يرغب في تجربة أي شيء جديد، ومنَّا الواثق من حظه؛ فتراه يتهور أحيانًا، ومنا الذي يتوسط الاثنين؛ فلا يدري هل هو محظوظ أم غير محظوظ؟ كثير منا من مرَّ بلحظة أو أكثر؛ شَعر عندها أنَّ الحظَّ قد تخلَّى عنه، بل أنَّ كلَّ ما يجري حوله يجري بعكس ما يرغب، وضدَّ ما يريد، فبين الحظِّ السيء والحظِّ الجيد؛ يبقى الشَّخص نفسه هو الحكم.
إن وجهات نظر الناس بالنسبة للحظ في الحياة تختلف، فهناك من يعتبره أمرًا موصولًا بالعشوائيّة، وهناك من يعتبره مرتبطًا بالتفسيرات المتعلقة بالإيمان والخرافة، ولمحاكاة هذا الواقع يقولون: (ليس للجاهل سوى الحظ؛ سواء في إخفاقه أو تفوقه. عندما نمتلك الحقيبة؛ ينقصنا القمح، وعندما نمتلك القمح تنقصنا الحقيبة. حسن الحظ وسوؤه؛ كوبان من بئر واحدة. الحظ ليس صدفة؛ إنه كدح، وابتسامة. السعادة الغالية؛ تُكتسب اكتسابًا).
*لم يلاحق الحظ مدحًا أو قدحًا مثل الشعراء، لاحقهم ولاحقوه. لقد أكثروا من ذكره حتى نافسوا به بقية ما يتناولون من قضايا تخص الإنسان والحياة. هذا المتنبي كبيرهم يقول:
لعَيني كُلَّ يَومٍ مِنكَ حَظٌّ
تَحَيَّرُ مِنهُ في أَمرٍ عُجابِ
حِمالَةُ ذا الحُسامِ عَلى حُسامٍ
وَمَوقِعُ ذا السَحابِ عَلى سَحابِ
والمتنبي هو الذي يرى؛ أن جمع الماء والنَّار أسهل من جمع الحظ والفهم فيقول:
وما الجَمعُ بينَ الماءِ والنَّارِ في يَدي
بأصعَبَ مِن أن أجمعَ الجَدَّ والفَهْما..!
أما زيد بن الطثرية فيقول:
ألا رُبَّ باغٍ حَاجةً لا ينالُها
وآخرُ قَدْ تُقْضى لَهُ وهو آيِسُ
يحاولُها هذا، وتُقْضَى لغيره
وتأتي الذي تُقْضى له وهو جالسُ
وفي حالة يأس ليس قبلها ولا بعدها قال شاعر ذات يوم:
رأيتُ الحَظَّ يستر كُلَّ عيبٍ
وهيهاتَ الحظوظ من العقولِ
أمَّا الشَّاعر مسعود سماحة؛ فيرى أنَّ الحياة تعتمد على القسمة وليس على الحظ، فيقول:
لكُلِّ امرئٍ في الوَرى قِسمةٌ
فليستْ تزيدُ ولا تَنقُصُ
ولذَّةُ مَن يقتَفِي المَكرُماتِ
جَوَّادًا كلذَّةِ مَن يَحْرِصُ
ويعبر شاعر آخر عن وجهة النظر هذه بقوله:
إن المقاسمَ أرزاقٌ مقدَّرةٌ
بَينَ العِبادِ فَمحَرْومٌ ومُدَّخِرُ
فما رُزقتَ فإِنَّ الله جَالبُهُ
وما حُرِمْتَ فما يَجْري بهِ القدرُ
فاصبِرْ على حَدَثانِ الدَّهرِ مُنْقِبضًا
عن الدَّناءةِ إِن الحُرَّ يصطبرُ
أمَّا ابن الرومي؛ فيعيدنا إلى قدرة الحظِّ ودوره فيقول:
إنَّ للحظِّ كيمياء إذا مَا
مسَّ كَلبًا أصارَهُ إنسَانَا..!
وهذا- على ما يبدو- رأي الإمام الشَّافعي الذي قال- والمجدود: المحظوظ:
فإذا سَمِعْتَ بأنَّ مَجْدُودًا حَوَى
عودًا فأثمرَ في يديهِ؛ فصدِّقِ
وإذا سَمِعْتَ بأنَّ مَحرُومًا أَتَى
مَاءً لِيَشْرَبَهُ فَغَاضَ؛ فَحَقِّقِ..!
لَوْ كانَ بِالحِيَلِ الغِنى لوجدتَنِي
بنجومِ أقطارِ السَّماءِ تعلُّقي
أمّا أبو العلاء المعري؛ فيصوِّر عجلة الحظ التي قد تدور لصالح من لم يسعَ ويتعب:
يُجالِدُ مَحْرومٌ على الأمرِ فاتهُ
وأحرزَهُ بالحظِّ مَن لمْ يُجالدِ
سَمَّيتَ نَجلكَ مَسعوداً وصادفَهُ
رَيْبُ الزَّمانِ فأمسى غيرَ مَسْعودِ
* ما أكثر الشعراء الذين ندبوا حظوظهم العاثرة في الحياة. من هؤلاء: عباس محمود العقاد الذي قال:
إِنْ كانَ حَظُّ النَّاسِ أعمى فإِنَّ لي
عَلى الغيبِ حَظ لا يزالُ بصيرا
يظلُّ يُحاشي كلَّ خيرٍ كأنَّه
يُحاذرُ فخًا أو يَردُّ مُغيرا..!
ومثله (إيليا أبو ماضي) قال:
يا ليلُ حَسبِيَ ما لَقيتُ مِن الشَقا
رُحماكَ لَستُ بِصَخرةٍ صمَّاءِ
بِنْ يَا ظَلامُ عَن العُيونِ فرُبَّما
طَلعَ الصَّباحُ وكانَ فيهِ عَزائي
* إلا أن أبلغهم وأشعرهم في الحظ السيء؛ الشَّاعر السُّوداني (إدريس جمَّاع) الذي قال:
إنَّ حَظّي كدَقيقٍ
فَوقَ شَوكٍ نَثروه
ثُمَّ قالوا لحُفاةٍ
يَوم ريحٍ اجمعوه
صَعُبَ الأمرُ عَليهم
ثُمَّ قالوا اتركُوه
إنَّ مَن أشقاهُ ربِّي
كيفَ أنتم تُسعِدوه..!