عمرو أبوالعطا
لم يجد (أحمد سمير) الطريقة المثلى لترتيب الغرفة، بعد أن انتشرت الأوراق وأغراضه على الأرض في فوضى عارمة، لكن يبدو أنه وجد الطريقة المثلى والقرار النهائي للعودة إلى الوطن بعد أن قضى خمسة وعشرين عاماً من عمره في الغربة.
فكر في أقل مجهود لتنظيف الغرفة، وبدأ يجمع الأوراق من على الأرض، فوقعت عينه على تذكرة سفر من بين الأوراق، مدون عليها تاريخ السابع من يوليو 1997م، شعر (أحمد) بالبرودة وهي تتسلل إلى جميع أطرافه، عندما قرأ التاريخ المدون على التذكرة.
جلس على طرف السرير ومسح العرق الذي تندى على جبينه، وبدأت دقات قلبه بالهدوء وقال هامساً: ما زلت احتفظ بهذه التذكرة، من يوم مجيئي إلى الغربة، تهالكت وذبلت كالتجاعيد التي تملأ وجهي، خمسة وعشرون عاماً وأنا أعد حقيبة سفري كل ليلة وأضعها خلف الباب في انتظار العودة.
سحب الهواء إلى رئتيه في نفس عميق وتابع: هنا لا شيء يتغير تقريباً، كل شيء يسير إلى الأسوأ، تبدل حالي من النقيض إلى النقيض، دفعت ثمناً غالياً من عمري، ماذا انتظر، سقوط نجمة من السماء تضيء قلبي المختنق، أم أجمع ما تناثر من فتات جنيني حتى لا تنطفئ ذاكرتي، ضائع بين كلمتين، غربة ووطن، عالق في الهواء كدخان سيجارتي، كبقايا قهوة راكدة في فنجاني، جلس على كرسي هزاز داخل غرفته، يراقب شعاع الشمس يتسلل من النافذة يكشف عن سحر خاص، وتوقفت الأمطار بالخارج بعد أن غسلت الشوارع ومسحت الغبار عن زجاج السيارات، امتلكه شعاع الشمس امتلاكاً كاملاً، أغمض (أحمد) عينيه واستسلم إليه، فما زال صدره مزدحماً بالكثير من المشاعر ما بين اشتياق، وفقد، ووجع، وحزن، وحيرة وأسئلة لا تغادر رأسي، نتيجة لسنوات طويلة من التخبط وعدم الوضوح، وتذكر.
في منطقة شبرا بالقاهرة، من بين مئات العمارات، يدق منبه أحد الغرف داخل شقة بالدور الرابع، تعتقد لوهلة بأن آلة الزمن توقفت، واختفى كل البشر في هذه المنطقة، وهناك شخص واحد فقط يبدأ في الاستيقاظ من النوم، ليواجه مصيراً مجهولاً وسيناريو قد يتشابه مع كل حكايات الغربة التي نسمعها من حين لآخر.
فكرة السفر بالنسبة (لأحمد سمير) كانت فكرة عقلانية وجذابة، قرار لبدء صفحة جديدة من حياته، لا يملك شيئاً، ولا يتخذ أي قرار إلا الأكل والنوم، فكان لا بد له من البحث عن ترتيب الروح وتحقيق الوضوح الذي يريده.
كانت الساعة تشير إلى الثالثة وخمس وأربعين دقيقة فجراً في هذه اللحظة، تمنى (أحمد) أن يرفع الخفاء عن حياته ليرى الأفق بلا انتظار، رغبة عميقة غائرة للمعرفة والخلاص، فهو يملك حساً أخلاقياً ومبادئ ليس لها علاقة ببقية العالم، وكان لا بد له أن يدرك أنه يجب أن يضف إلى حياته قمراً غريباً وشمساً ثانية وفصلاً خامساً وهو فصل الغربة.
ورغم الأفكار التي كانت تزعجه ويتخيلها عن الغربة، وكثرة الازدحام في رأسه، وأمنياته التي لم تتحقق أبداً، ولكنه يعلم جيداً أن أحلامه من حقه ويوماً ما ستتحقق.
لملم أغراضه داخل حقيبة، وأصبح جاهزاً للسفر.
دق باب الغرفة ودخل (سامح) وهو الأخ الأكبر (لأحمد) وابتسم ابتسامة خافتة وعيناه حزينتان.
سامح: هل أنت جاهز يا أحمد، باقي ساعتان على موعد الطائرة، وسنغادر بعد نصف ساعة.
حاول أحمد جاهداً إخفاء الضيق والانفعال الذي بدا عليه من صوته، فلحظة الفراق دائماً تكون صعبة ومؤلمة.
أحمد: أنا جاهز.
سامح: تأكد من جواز السفر وتذكرة الطائرة.
أحمد: لقد وضعتهما في شنطة اليد الصغيرة، وكل شيء تمام.
سلم (أحمد) على والديه وإخوته، وفي لحظة خاطفة نظر إلى جدران وأنحاء البيت، كان لدى أحمد أسئلة ساكتة تجول في خاطره من ضجة الفراق الصامت، ولكن الآن انتهت الأيام الدافئة في أحضان العائلة والوطن.
سلك (أحمد) طريقه إلى المطار في سيارة أجرة، ورغم أن الوقت صباحاً، لكن يبدو على الشمس أنها قاربت على الرحيل ناثرة وراءها لون الشفق المحمر، مع بعض السحب المعلقة في السماء، هذا المشهد في خيال (أحمد) فقط، فالظواهر الكونية لن تتغيّر بمجرد لحظة فراق شخص لعائلته ووطنه، نسمة هواء تعبر من نافذة السيارة جعلت (أحمد) يغير المشهد في خياله إلى الواقع.
وصلت السيارة إلى أرض المطار، رأى (أحمد) في عيون الناس، فرحة اللقاء، وفي أخرى دمعة أمل في لقاء آخر بعد الوداع، فراق الأحبة ولقائهم، احتضن دقات قلبه، والصراع بداخله بين الأمل واليأس، في أرض المطار تتشابه الناس، وتختلف الدموع ما بين اللقاء والفراق. ويعلو في المكان صوت النداء الأخير للمسافرين على متن الطائرة.
فجأة وكأن المكان تغير والزمن تبدل، عاد (أحمد) إلى الطرقات التي سلكها في منطقة شبرا وهو صغير، كان الشوارع والطرقات لم تتغير منذ زمن طويل، يمشي تارة ويقف تارة، متأملاً وجوه الناس في حالة ذهول، في نهاية الشارع وصل إلى العمارة التي كان يسكن بها، وقد تصدعت جدرانها وتهالكت الأساسات وتبدلت الأركان، صعد إلى الدور الرابع حيث الشقة، ودخل واستند على الحائط يجل بنظره إلى كل أنحاء الشقة، يستعيد ذكرياته، ليالي مصحوبة بدموع الفرح والفراق، غريب أمر هذه الحياة وأملها القاسي، نثق بما هو مبهم وغير واضح، ونعالج الفراغات التي أحدثناها في أروحنا برقع صغيرة من الوهم، نظر إلى المرآة فظهر له التجاعيد التي تملأ وجهه، في الغربة سر لا يعرفه العابرون في فوضي اشتهائها، سر وحيد، لكي نعرفه علينا أن نتعلم فنون الغربة المجنونة، النقود هديتها والشيخوخة عقوبتها، الغربة ما هي إلا وهم يحمل وهماً.
ومع نسمات الفجر، في منطقة شبرا بالدور الرابع، تمتد يد لتوقظ شخصاً نائماً، يتقلّب نحو اليمين ونحو الشمال، ويخرج صوت يقول: اصح يا أحمد، ميعاد الطيارة حيفوتك.
يستيقظ (أحمد) ويفتح عينيه ويرى أخاه سامح ويبتسم ابتسامة خفيفة.
هنا أدرك (أحمد) أن كل هذا كان أضغاث أحلام.
- سافر أحمد سمير وعاد بعد ثلاث سنوات وتزوج ورزقه الله بابن وابنة، واستقر في وطنه بعد أن فتح شركة للمواد الغذائية، وعاش حياة سعيدة ومستقرة .