د. عيد بن مسعود الجهني
القرن المنصرم شهد أحداثاً جسام كان مركز انطلاقها القارة الأوروبية في مقدمتها بالطبع الحربان الكونيتان، أولاهما الأولى التي انتهت بهزيمة ألمانيا والدول التي انضمت إلى جادتها، وكانت معاهدة فرساي التي وقعت بعد الانكسار الألماني لتسدل الستار على أحداث الحرب العالمية الأولى.
الدول المنتصرة وقعت اتفاقيات مع الدول المهزومة (الألمانية - النمساوية - المجرية - الدولة العثمانية - مملكة بلغاريا)، وشهد يوم 28 يونيو 1919 التوقيع على المعاهدة. Treaty of Versailles ، وأقرت ألمانيا وحلفاؤها بالمسئولية عن التسبب في جميع الخسائر والأضرار التي وقعت أثناء الحرب.. الخ.
وبعد أن فاق العالم من ضربات تلك الحرب البلشفية عاش سنوات سمينة لم يعكر صفوها سوى الهزة الاقتصادية الكبرى التي ولدت من على أرض بلاد العم سام عام 1929. ورغم أن الإعلام في تلك الفترة من التاريخ كان أثره متواضعا إلى حد كبير فقد كانت أزمة الكساد الاقتصادي الكبيرة مركزها أمريكا التي شهد قطاع واحد (المصارف) انهياراً تاريخياً خرج من رحمه إفلاس (5000) بنك في ذلك البلد ناهيك ما لحق بالمصارف في أوروبا على سبيل المثال:
تلك الكارثة الاقتصادية التي تركز أثرها السلبي في أكبر اقتصاد آنذاك، أعقبها بروز نجم أدولف هتلر في عام 1933 الذي كانت بلاده ما زالت تعاني جراح معاهدة فرساي بشروطها القاسية، والذي لم يخف عدوانيته للدول التي فرضت تلك المعاهدة على بلاده.
وبالفعل بدأ النازي هتلر في بناء جيش ألماني قوي بالعدة والعتاد، وما بين عام 1933 وعام 1938 أصبح له مكانة عسكرية جعلت كل من بريطانيا وايطاليا وفرنسا توقع معه اتفاقية ميونخ بتاريخ 29 سبتمبر 1938 التي بموجبها قبلت تشيكوسلوفاكيا التنازل عن سوديتنلاد لألمانيا، كل هذا فعلته الدول الثلاث لاكتفاء شر أدلف هتلر.
لكن ذلك الظن الحسن من تلك الدول لم يكن مقبولا من النازي المتأهب لرد اعتبار بلاده، لذلك شهد 15 مارس 1939 قيام الرجل بالضغط (قوةً) على السلوفاك لإعلان استقلالهم وتشكيل جمهورية سلوفاكية بل قيام الرجل السلطوي - الدكتاتوري - النازي باحتلال الأراضي التشيكية وبذلك يكون قد ألغى نصوص اتفاقية ميونخ.
لم يكتف النازي بما احتله من أراضي دول الجوار وعدم احترام اتفاقية ميونخ، لكنه قرر الإقدام على أكثر من ذلك خرق القانون الدولي والأعراف الدولية ومواثيق السلام وعصبة الأمم ليسجل 1 سبتمبر 1939 اجتياح ألمانيا بقيادة (الماكر) هتلر لبولندا.
هنا تصبح الأسباب قد توافرت لاندلاع الحرب الكونية الثانية ليكتب التاريخ العسكري في الثالث من سبتمبر 1939 إعلان بدايتها طبقا لإعلان كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا.
وما أشبه اليوم بالبارحة، القارة الكبرى التي كانت أسباب حربين عالميتين تكونت من على أرضها، وامتد أثرها المدمر إلى كل أركان المعمورة، وقدرت ضحاياها في الأولى أكثر من (10) ملايين والثانية ما بين 50 و60 مليوناً، بل تذهب بعض التقديرات إلى بلوغ الرقم (85) مليون قتيل في الحرب الكونية الثانية التي أنهتها قنابل أمريكا النووية على الجزر اليابانية، وهذه الأعداد من القتلى رغم تقليدية الأسلحة باستثناء قنابل هيروشيما وناغازاكي.
التاريخ اليوم في القرن الواحد والعشرين يسجل حرب روسيا على الجارة أوكرانيا، أي انتهاك سيادة دولة مستقلة بالقوة واستقطاع مناطق من تلك الدولة (أوكرانيا) وضمها للأراضي الروسية، وهذا خرق للقانون الدولي والأعراف الدولية واتفاقيات جنيف الأربع وميثاق الأمم المتحدة ومجلس أمنها صاحب الفيتو (اللعين) الذي أحد أعضائه الخمسة روسيا التي ورثت (كرسيها) من الاتحاد السوفييتي (السابق) الذي انهار عام 1991.
الأخطر أن الرئيس بوتين فور أن أعلن ضم تلك الأراضي لبلاده ووافقه برلمان بلاده بادر سريعا ليعلن أن أي اعتداء عليها سوف يعتبره اعتداء على الأراضي الروسية وسيكون الرد (بالسلاح النووي) وهو السياسي والقائد الخبير بالشئون الدولية والإستراتيجية العسكرية عرّف ضمه لأرض الغير بأنه أرض روسية رغم أنها خارج حدوده الدولية، ولم يترك مساحة للحلول الودية أو الدبلوماسية.
إذا هذا هو الإعلان والتصعيد الأخطر - التهديد باستعمال السلاح النووي من دولة كبرى في هذا السلاح المدمر منذ غروب شمس الحرب العالمية الثانية عام 1945.
هذا الإعلان أو الإنذار الخطير موجه بالدرجة الأولى إلى جيرانه الاتحاد الأوروبي، وبالطبع إلى الولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة حصة الأسد في تزويد أوكرانيا بالأسلحة التقليدية للدفاع عن أرضها في مواجهة الهجوم الروسي الذي أسموه (حربا خاصة).
لكن الجيش الروسي التقليدي الذي جُرب في أفغانستان وبلاد الشام البعيدة عن حدود بلاده، واجه مقاومة شديدة من الأوكرانيين، الأمر الذي دفع بالقيادة الروسية بالانسحاب من مناطق عدة وضم أخرى واستدعاء الاحتياطيين الذين قدر عددهم بـ(300000) لدعم سير المعركة.
العالم في هذا الزمن يشهد أزمات قد تؤدي إلى فناء دوله، بل وسقوط إمبراطوريات وهلاك الأجيال فنشوب حرب سلاحها القوة النووية معناه المبسط فناء كل من يدب على وجه الأرض فالجميع خاسرون، فالسلاح المدمر قد يغري صاحبه بالتعالي والغرور والشعور بالطغيان، لأنه اعتقد أنه ملك (القوة) التي ليست بيد الآخرين.
ولذا رأينا أن دولة تعد بالمفهوم الاقتصادي متخلفة وصادراتها معظمها أسلحة تتوجه إلى إيران لا تزيد قيمتها على (200) مليون دولار، ويعيش بعض سكانها فقرا وبطالة، في ظل نظام دكتاتوري شمولي يكمم الأفواه ويقتل الحريات، يعلن رئيسه بكل جرأة أن أي اعتداء على بلاده سيقابل باستعمال السلاح النووي الذي يمتلكه، فلم يترك بصيص أمل للرد بالسلاح التقليدي أو الحوار أو الحلول الودية أو الدبلوماسية.
هذان مثلان حيان لإعلان استخدام السلاح الذري ضد الآخرين، وإذا سلمنا بأن استعمال القوة لردع المعتدي في زمن قانون الغاب أمر مقبول طبقا لميثاق الأمم المتحدة بل إن الكفاح المسلح ضد المعتدي أو المحتل أو المستعمر أمر أباحه القانون الدولي والأعراف الدولية وميثاق المنظمة الدولية، لكن الاستيلاء (بالقوة) على أراضي الدول الأخرى واعتبارها جزءاً من أراضي الدولة المعتدية وردع محاولة استردادها بالسلاح الذري يعتبر ضد جميع القوانين بما فيها الاتفاقيات التي تعقد بين الدول كانسلاخ أوكرانيا وغيرها من الدول شرق أوروبا عن الاتحاد السوفييتي يوم سجل التاريخ انهياره.
روسيا، بريطانيا، فرنسا، دول أوروبية وهي دول نووية وأمريكا هي الأخرى ومعها روسيا صاحبتا اكبر ترسانة نووية بإمكانها تدمير الكرة الأرضية مرات عديدة، فإن شبت نار حرب من هذا النوع ستدمر الجميع لا محالة.
وإذا كانت أمريكا التي دخلت الحرب الكونية الثانية بعد معركة بيرل هاربر التي قادها الانتحاريون اليابانيون، فإن أي حرب جديدة سلاحها نووي ستكون أمريكا أول فرسانها.
وإذا كانت أمريكا وروسيا في عهد ريجن وغورباتشوف قد وقعتا اتفاقيات إستراتيجية لخفض الأسلحة الذرية في الترسانة الأمريكية وأختها الروسية، فإن التاريخ أكد أن كل تلك الاتفاقيات ما هي إلا سباق تسلح جديد بين العملاقين الدب الروسي والغول الأمريكي.
وأصبح اليوم كل منهما يتباهى بما توصل إليه من تقدم وتطور في مجالات السلاح الذري والصواريخ العابرة للقارات وحاملات الطائرات والبوارج والغواصات والسلاح التقليدي..الخ.
ولسوء الحظ أن معظم تجارب السلاح الأخير (التقليدي) في أفغانستان وبعض الأراضي العربية ومنها العراق وبلاد الشام وليبيا، والصومال وبعض دول القارة السمراء.
إذا العالم في خطر داهم الدول الكبرى تتصارع على تقاسم النفوذ العالمي وتحديدا الشرق الأوسط مخزن النفط العالمي الذي قال عنه رئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشرشل (من يملك نفط الشرق الأوسط يملك العالم)، والقارة السمراء لها نصيبها هي الأخرى من الصراعات والحروب الداخلية للفوز بالسلطة، تديرها الدول الكبرى من قرب ومن بعيد.
القارة الأوروبية التي عاشت رخاء وثراء وازدهاراً اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً منذ غروب شمس الحرب العالمية الثانية حتى هذا الزمن الذي تشهد فيه جارة تغير على جارة لها لتشتعل حرب لا يعرف حتى كتابة هذه السطور موعدا قريبا أو بعيدا لنهايتها، وكل ما هو معلن أن السلاح النووي قد يستخدم في تلك الحرب. والتعريف أو التكييف المبسط لذلك الإعلان التصعيدي الخطير أن العالم يواجه أزمته الحقيقية فقد يصبح السلاح الفتاك الذي صنعته أيدي الإنسان الذي خلقه الله لعمارة الأرض وعبادته قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70)، يكون سببا في هلاكه فإذا اندلعت نيران تلك الحرب فإنها لن تبقي ولن تذر.
ويصبح اليوم من واجب حكماء العالم.. ونقصد بهم القادة العقلاء والأمم المتحدة ومجلس أمنها أن يصبوا الماء على النيران المندلعة قبل أن يلتهم لهيبها الجميع لتبقى عبر ودروس التاريخ ماثلة أمام الجميع يوم يعم الفناء والدمار والخراب كل ما بناه الإنسان وتصبح الأرض قاعا صفصفا.
والله ولي التوفيق،،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة