يقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) سورة الكهف آية 46. فالمال في حد ذاته لا يعيب صاحبه ولا ينقص دينه، ولا يهدم تقواه، بل إنه مع المؤمن الصّادق سلاح فعَّال يسعد به في الدنيا ويُسعد غيره، ويسلك به طريق الجنة، ويستمطر به رحمات ربه، فيكون من السعداء وفي الدارين قال نبي الرحمة مُحمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه: (نعم المال الصَّالح للعبد الصَّالح).
وقد يخطئ من يظن أن سعي المرء في هذه الحياة لطلب المال بالطرق المشروعة نوع من حب الدنيا، وأن استمتاعه به فيما أحل الله له نوع من الترف الممقوت وأعراض عن الآخرة.. كلا.. فإن الباري عزَّ وجلَّ يقول: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) سورة الأعراف آية 32.
فهذا الأمر أن الغني بعد الله أقدر على نفع مجتمعه من المرء الفقير، إذ إنه بماله قد يزيل هموم إخوانه الفقراء، ويمسح به دموع إخوانه اليتامى، ويأخذ بأيدي إخوانه المساكين، ويعين إخوانه المحتاجين فبه تنشرح الصدور.
وتشرق الآمال والتطلعات إلى الأفضل، وتنقشع الظلمات إلى الأحسن، وكم إنسان غني أنسى الله به إخوانه اليتامى والأرامل والعجزة وكم من غني أشبع الله به بطونا جائعة، وأسكن به آلاماً موجعة، وكم من غني صالح بدد الله على يديه آهات الحيارى وأنات المحرومين.
فالله سبحانه وتعالى كرم المحسنين الأوفياء أيما تكريم، ووضح في كتابه الكريم ما أعد لهم من فضل عظيم ونعيم مقيم، كما قال الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) سُورة البقرة الآيتان 261 و 262.
(فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) بل إن نبي الرحمة مُحمَّد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه قال - يجعل من المال في يد العبد الصَّالح أمراً يحسد عليه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).
وروى الترمذي عن أبي كبشة عمر بن سعد الأغاري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فأحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقه، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، وأحدثكم حديثاً فأحفظوه قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء.
وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمة ولا يعلم لله فيه حقاً، فهذا بأخبث المنازل. وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو في نيته، فوزهما سواء).
ولعل هذا الحديث يزيل كل لبس ويطرح كل شك حول أهمِّيَّة ودور المال في الإسلام، ولعل بعض الكسالى عن السعي الدؤوب للرفعة والتمكين يقول: نكتفي بأن نكون من الصّنف الثَّاني الَّذي بلغ بنيته أفضل المنازل، ونقول إن هذا الصّنف لم يبلع تلك المنزلة مع قدرته على كسب المال، وإنما هم قوم بذلوا الجهد، ولكن الله لم يبسط لهم الرزق لحكمة يعلمها سبحانه، فهم في سعيهم ماضون، ويرحمه الله مستمسكون، فلما رأى الله منهم هذا السعي مع تلك النية بلغهم من الثواب ما يرجون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) سورة الإسراء آية 29.
ما أحوجنا نحن المسلمين الآن إلى هذا المفهوم العظيم.. فكم من الأموال في أيدي الأثرياء مِّنَّا، وكم من المسلمين من يموت جوعاً في مختلف بقاع الأرض.. وكم من المسلمين من تفتك به الأمراض فلا يجد الدواء. وكم من بطون أضرها الشّبع بينما باتت غيرها خاوية... وكم من طعام شهي يلقى في حاويات القمامة، بينما بات فقير يرنو لكسرة خبز تسكت آلامه.
فإن صدقة من ثري تعيد البسمة لآلاف الوجوه الحزينة.. وقد يفتح الله بها أبواب الخير لكثير من عبادة. فالرحمة في القلوب تفعل المعجزات بعد الله سبحانه وتعالى وتجعل فئة من البشر نذروا أنفسهم لخدمة للإسلام والمسلمين، فكانوا وسطاء بين فريقين، الأغنياء في أرجاء المعمورة، وفقراء عاجزين في أنحاء المعمورة، فالأغنياء يلتمسون فقر الفقراء وعجز العاجزين وحاجة المحتاجين، فهذه من ثمار الغنى.