عبد الرحمن المعمر
في عام 1977م أقامت جامعة الرياض (قبل أن تسترد اسمها الأول جامعة الملك سعود في عام 1982م) أول معرض دولي للكتاب في مقر الجامعة القديم في الملز، وكنت قد أسست وقتذاك مع المرحوم الشيخ عبدالعزيز الرفاعي دار ثقيف للنشر والتأليف، وأثناء تجولي في المعرض لفت نظري مشاركة دار نشر تونسية، ولم أكن قد زرت تونس من قبل وإنما سمعت عنها وتابعت أخبار رئيسها الحبيب بورقيبة الملقب بـ(المجاهد الأكبر) والمقولة الشهيرة المنسوبة له: «نصف حل ممكن خير من حل مستحيل»، كما كنت استمتع بسماع أغنية فريد الأطرش التي صاغ كلماتها الشاعر بيرم التونسي:
بساط الريح
يابو الجناحين
مراكش فين
وتونس فين
أنا لي حبيب
هناك واثنين
وبعادهم عني
اليوم شهرين
* * * * * *
تونس أيا خضرا
يا حارقة الأكباد
غزلانك البيضاء
تصعب على الصياد
غزلان في المرسى
والا في حلق الواد
وصادف أن صاحب دار النشر المشاركة في المعرض كان من سكان حلق الوادي التي كنت أمني نفسي بزيارتها. وسأخصص جُل هذه المقالة عن شيء من سيرته وعلاقتي به والتي هي امتداد للعلاقات السعودية التونسية وكيف يمكن للناشر أن يكون قوة ناعمة لبلاده، ذلكم هو الناشر التونسي الكبير الأستاذ علي بوسلامة صاحب دار بوسلامة للنشر الذي حببني في تونس وأهلها وكل ما فيها ومن فيها.
بدأ الأستاذ بوسلامة حياته معلماً ومنها اشتغل بالصحافة المتخصصة، حيث أصدر مجلة (المعلمين)، ثم تحول إلى النشر فسعى إلى إيصال الكتاب التونسي إلى المشرق العربي، ثم طور صناعته وحسن إخراجه وتفنن في تنسيقه وتسويقه، كان يحضر كل معرض للكتاب ويشارك في كل مهرجان للثقافة ويغشى كل مؤتمر للأدباء، أما دوره في الأنشطة التجارية الأخرى مثل إنشاء الفنادق والمدن السياحية والمزارع والمصانع فذلك ما ندعه الآن جانباً. بوسلامة زاد من قناعتي بحب تونس ومن فيها:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلباً خالياً فتمكنا
وتوغل هذا الحب حتى صار هجرة وإقامة مستمرة وتطور إلى شراء شقة تطل من سابع طابق على البحر في (ضاحية حلق الوادي)، ولا أزال كلما لج بي الشوق وجددت الزيارة لتونس أمر من حولها أحن إليها رغم السنين وخروجها من ملك اليمين. لم أكن السعودي الوحيد الذي تَدَيَّر تونس وهام بها، فكان أن سبقني إليها كثير من السعوديين، أذكر منهم: الشاعر الكبير الأستاذ طاهر زمخشري، والأستاذ جميل أبو سليمان أحد رواد التعليم والذي عمل ملحقاً ثقافياً في تونس، والأستاذ صالح بن عبدالعزيز الجهيمان شقيق الأستاذ الأديب عبدالكريم الجهيمان وغيرهم. كما تعرفت في تونس على عدد من علمائها وأدبائها ومثقفيها ومسؤوليها وشعرائها مثل المناضل والسياسي ووزير الشؤون الثقافية البشير بن سلامة، والناقد والأديب وأستاذ الأدب المقارن الدكتور المنجي الشملي، والباحث والمؤرِّخ الأستاذ الدكتور عبدالجليل التميمي، والروائي والكاتب المسرحي ووزير التربية محمد فرج الشاذلي، والشاعر القيرواني الكبير جعفر الهذيلي ماجد، والأديب والشاعر التونسي الكبير نور الدين صمود، وغيرهم.
لقد ثبتت في القلب منها محبة
كما ثبتت في الراحتين الأصابع
كل ذلك بدأ من تعرفي على الناشر التونسي علي بوسلامة في أحد أروقة أول معرض دولي للكتاب في الرياض. كان بوسلامة شخصاً يملك قدرة هائلة على إقناعك بحب بلده وما فيها.. يجعل من لا شيء شيئاً ومن المستحيل ممكناً كأنه عالم في معمل كيمياء يقلب الأشياء ويسخّرها كما تريد أو كما يشاء.
كان -رحمه الله - واسع الصداقات متين العلاقات، يترك في كل بلد أصدقاء وبعد كل لقاء أحباء، له مع كل صديق قصة ومع كل مكروب غصة، يساعد المحتاج ويعين الملهوف وينجد من يلجأ إليه، وهذه والله خصال كبار الرجال.
عرفت الأستاذ علي بوسلامة حق المعرفة خبرته عن قرب وصاحبته بالجنب فرأيت منه الأعاجيب، كيف أستطيع أن أختصر البحر في سطر، إن تاريخ الكبار لا يطوى في أشبار، بل يمتد ويطول عبر البحار.. ماذا أستطيع أن أقول ومجال الحديث عن الناشر الكبير كثير، كان يفعل الخير ولا ينشره ويسعى مع المحتاج ولا يذكره، ويصعب حصر مناقبه ومزاياه وأفضاله وعطاياه، إنني كما ذكرت منذ عرفته وهو شخص عجيب في كرمه كبير في محبته عظيم في صداقته، بل حدثني نجله السيد رياض أنه كان كبيراً وعظيماً حتى في مرضه. ألم أقل لكم من قبل إني أحدثكم عن رجل غير عادي وشخص استثنائي. كان على جانب كبير من الذكاء والفطنة والدهاء يفزع إليه الأصدقاء في الاستشارة يستنصحونه ويستعينون به في حل الأزمات وحلحلة المعضلات فيتدخل ويحل كل إشكال بيسر وستر وعفو وشكر.
كان -رحمه الله - واسع الحيلة عميق النظرة بصير بأحوال الأسر وحاجات البشر، يحسن صنع المعروف ويتقن الإحسان إلى الملهوف. أعود إلى ما أردت أن أقول وأذكر، حيث كان يتلمس بنظرته العميقة ما يجول في دواخل الضعفاء من رغبات وميول وخاصة كبار السن غير القادرين على إتمام فريضة الحج أو الزيارة والعمرة، يعرف بخبرته ما بداخلهم من حسرة فيهون عليهم الأمر وييسر لهم الصعب ويذلل المستحيل، يا الله ما أعجبك يا علي، كان يوظِّف صداقاته التي ادّخرها مع معارفه في مكة والمدينة وجدة وغيرها من المدن السعودية لمساندة الراغبين والإحسان إلى المحتاجين ويرجو الجميع ألا يُطلِعوا أحداً ولا يُخبروا فرداً. هذه واحدة من أفعاله وقليل من أفضاله، أما دوره الريادي في نشر الثقافة وتيسير وصول الكتاب إلى المثقفين والطلاب، وقصصه ورحلاته شرقاً ومغرباً ومشاركاته في معارض الكتب في سوريا ولبنان والعراق والسعودية والخليج فذاك مما يطول شرحه. كان إذا حضر أحد تلك المعارض أو المؤتمرات الثقافية يكون قطب الرحى الذي يلتف حوله الأصدقاء ويجتمع عنده الأدباء وينزل في ضيافته الجميع. كنت لا أراه في تونس أو خارجها إلا مرفوقاً بصديق أو ضيف، كان لا يأكل طعاماً وحده، بل يلتمس زائراً فإن لم يجد فصديقاً حتى إذا سافر إلى المشرق تراه يتصل بمعارفه بالهواتف يخبرهم بوصوله ويستدعيهم لنزله، فإن لم يجدهم تعرَّف على من يجلس في صالون الفندق ودعاه إلى عشاه حتى سماه أصدقاؤه السعوديون (علي الطائي)، بل هو نفسه ألم يسم أحد أنجاله الكرام بـ(حاتم) تيمناً وتفاؤلاً بالكرم الحاتمي، وقد عرف الله حسن ظنه وثقته بالمولى جلَّ وعلا فأعطاه حتى أرضاه.
وبعد: فهذه تحية ناشر سعودي أهديها إلى ضيوف معرض الرياض الدولي للكتاب، أكتبها تحت تأثير الذكرى، وأسطرها بعد مرور 45 عاماً على أول دورة من هذا المعرض العتيد، وبمناسبة مشاركة 16 دار نشر تونسية ضمن جناح تونس (ضيف شرف معرض الرياض الدولي للكتاب لهذا العام 2022) محيياً هذه المشاركة الثقافية للناشرين والمثقفين التونسيين، حيَّا الله تونس وذكراها ومثقفيها وكل ما فيها وسأظل أردد مع جعفر ماجد:
أخلصتك الحب في سري وفي علني
وهمت فيك هياماً غير متزن
وعشت بين رباك الخضر منتقلاً
كأنني طائر يشدو على فنن