قال تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.
آية عظيمة، كنت أقرأها بين وقت وآخر بالمسجد؛ وبالجامع؛ وبالمدرسة؛ وفي المرحلة الابتدائية والمتوسطة، ولم أدرك معناها إلا بالمرحلة الثانوية وما بعدها، وكنت كلما انتقلت من مرحلة إلى أعلى منها زادت معرفتي بالآية الكريمة وتفسيرها، إنها أوامر وتوجيهات من غفورٍ رحيم، توصينا خيرًا بالوالدين والإحسان إليهما، والدعاء لهما بالرحمة، والتعامل معهما بلين الجانب، والسمع والطاعة.
الوالدان (الأم والأب) أفضالهما علينا لا تُحصى، من قبل الولادة وحتى آخر ساعة لهما بالحياة الدنيا، هما اللذان إذا قست عليهما الدنيا بسببنا تبسما، وإذا مرضنا تألما، هما من أنعم علينا بعد ما أنعم الله عليهما بنعم أكثر من حبات الثرى.
الآيات التي تحثنا على البر بهما والإحسان إليهما، كثيرة، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} الآية.
لقد فقدت والدتي وحنانها قبل أربعة عشر عاماً، في عام 1428هـ الموافق 2008م وما زلت أتذكر حبها وحنانها وأفضالها التي لا تعد ولا تُحصى ولا يُغفل عنها، ولا تُنسى، من قبل الولادة وحتى هذه الساعة، ولن أنساها ما دمت حيًا، إنها الأم التي سأدعو لها ولأبي قائمًا قاعدًا.
لقد أوصى المصطفى عليه الصلاة والسلام ببر الوالدين والإحسان إليهما، بل وقدم خدمتهما على الجهاد في سبيل الله، فقد جاء في السنّة (أنه جَاء رَجُلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْذِنُهُ في الجِهَادِ فَقالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ).
تمرّ الأيام بحلوها ومرّها، وتمضى السنون بدنوّها وسَنيّها، ومع انطوائها ومضيّها فقدنا والدنا الغالي «عبدالله بن عبدالرحمن آل إبراهيم» أقرب الناس إلى القلب، وأحبهم إلى النفس، وأشجع من وقع عليه نظري، والدي الذي رباني فأحسن تربيتي وأدبني فأوفى تأديبي وعلمني فأعظم تعليمي، علمني القرآن ومبادئ الإسلام، وحبّب إلي طلب العلم النافع حتى حصلت على الدكتوراه، والدي الذي أنفق علي وأنا في بطن أمي حتى بلغت أكثر من خمسين عامًا، والدي الذي ينظر إلي بعطفه حتى بعد زواجي بأنني ابنه الصغير، وبحاجة إلى قلبه الرحيم، والدي الذي يقف بجانبي في السراء والضراء، ويسأل عن حالي وأحوالي، ويشقى لسعادتي.
يوم الخميس 1444/1/27هـ كان يومًا عصيبًا حين فقدنا الوالد الغالي «عبدالله بن عبدالرحمن آل إبراهيم»، الذي عشنا في كنفه سنوات طويلة، ولكنها في نظري، وفي نظره -رحمه الله - دقائق قصيرة، تعلمنا منه المبادئ والأخلاق الحميدة، ولن أنسى الذكريات الجميلة، والأيام السعيدة معه وفي جواره، حينما كان يأخذني من حضن والدتي -عليهما رحمة الله - ويضعني في حضنه. ولن أنسى تلك الأيام الحلوة التي عشتها مع والدي عندما كان يأخذني لمجلس خالي «الأمير إبراهيم بن عبدالعزيز آل إبراهيم» الوالد الكبير، ذلك المجلس الذي يعج بالمشايخ وبالعلماء والمثقفين وأبناء العائلة الكرام، ولن أنسى تلك الموائد الكبيرة، وأنواع الحلوى والفواكه التي تقدم للحضور من الحاضر والباد.
ولن أنسى ما دمت حيًا أفضال والدي الأكبر الذي هو خالي (أخو الوالدة) الشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز آل إبراهيم الذي أسعدني هو الآخر في حياتي وحقق جميع أحلامي وجعلني واحداً من أبنائه، سأذكره ما دمت حيًا وسأوصي له بعد مماتي عليه رحمة رب العباد والذي كان له الأثر الكبير في تكوين شخصيتي، فقد ترعرعت مدة ليست بالقصيرة بين أحضانه، نهلت من معين أدبه، واقتبست من تربية وعلمه نوراً، فقد كان بمثابة الوالد الكبير بحكم غياب أبي المتكرر لظروف السفر شبه الدائم. فجزاه الله عني خير ما يجزي محسنًا على إحسانه، ورحمه رحمة واسعة.
لقد حرص عليّ والدي باعتباري ابنه الوحيد، وكان يأخذني لأصدقائه وأحبابه لسنوات طويلة، وكنت أسعد بسعادة لا توصف عندما ينادونه بأبي سامي، كلمة تثلج الصدر وتفرح القلب وتفرج الهم، ولهذا كنت دائمًا أحرص على مرافقته في الذهاب معه إلى الأصدقاء والأقارب.
كان -رحمه الله - يشجعني على الدراسة، وكانت نظرته في الحياة (علّم ولا تورّث) فكان يصرف عليّ المبالغ الكثيرة بلا حد حتى حصلت على أعلى الدرجات، من أعلى الجامعات، إنه والدي وتاج رأسي، الذي أفتخر أنني ابنه، والمتابع لمسيرتي حتى حصلت على الدكتوراه وحصلت على الوظيفة التي كانت عونًا لي على الحياة وخدمة الناس يرى ذلك جليًا، حيث كان يوصيني بخدمة ديني ومليكي ووطني، وكنت أستجيب دائماً لتوصياته وتوجيهاته والتي كانت دافعًا قويًا للتمسك بالدين والإخلاص بالعمل وحب الوطن الكبير المملكة العربية السعودية.
كنت مقصرًا في التواصل معه والاتصال به، وكان لا يمر يوم أو يومان إلا ويتصل فيسأل عن الحال والأحوال، عن أحوال العائلة والأحباء، وفي أغلب الأيام يتصل باليوم عدة مرات ويتصل دائمًا بالمساء وبالصباح.
رحم الله والدي قرة عيني «الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن آل إبراهيم» الذي يكنى بأبي سامي، والذي مهما قلت فيه فلن أوفيه حقه.
أسأل الله العفو الغفور أن يسامحني ويعفو عني جراء كل تقصير قصرته بحق الوالد الغالي، وأسأل كل قريب أو صديق أو مواطن وقع عليه خطأً من الوالد أن يسامحه ويعفو عنه، (فالمسلم مسامح كريم).
اللَّهم ارحم والدي الغالي رحمة واسعة، ونوِّر عليه قبره، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، اللَّهم ارحم صاحب الفزعات وقاضي الحاجان، اللَّهم ارحم القدوة الحسنة بعلمه وبعمله وتعامله مع الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية، والاجتماعية.
وهنا أستذكر ما حفظناه من والدنا «رحمه الله» البيت المأثور:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
** **
- السفير الدكتور سامي بن عبدالله بن عبدالرحمن آل إبراهيم