د. شاهر النهاري
لا شك أن الرواية السعودية قد تأخر تواجدها، عنها في بعض الدول العربية، ما جعل القارئ السعودي مستوردا أعظم للروايات، والتي كانت تحضر على شكل كتب، أو أفلام ومسلسلات، مما خلق للرواية العربية، وبالذات المصرية تواجدا في الذاكرة الثقافية السعودية، بكثرة روادها، وجودة أعمالهم، التي وصل بعضها العالمية.
البدء من الصفر عادة يكون جهدا محفوفا بالمخاطر، وبدء البناء على أساس خارجي، تجريبي، لا يلبث أن يتعثر، نظرا لتداخل اللهجة، وتماهي الطباع الإنسانية، وخصوصية المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والتشريعية، وحتى السياسية، والتي كان المثقف السعودي يجدها تحضر لمخيلته، حينما يفكر في كتابة رواية، مدفوعا إما بالموهبة، التي لم تكن مكتملة الجوانب، بتأثير نقص النتاج الروائي السعودي، وأدلجته، وعدم اهتمام الجامعات بتبني الدراسات الأكاديمية عن فن الرواية، أو بمشاعر الكاتب أنه يمتلك قدرات في علم الاجتماع والتدريب والريادة والمهارات وعلوم النفس، أو في مجالات الفلسفة، وبالشكل، الذي لا بد أن يساعد على بدء مشروع رواية متكامل.
والرواية من الأعمال، الأدبية الكبيرة، والمرهقة، والتي تحتاج لعين ولسان جواهرجي، وجهود مركزة شخصية وأدبية وتخيلية وإنشائية.
الرواية السعودية كانت نادرة عند الستينات، ودافعها مجرد هواية وطموح وتجربة، وسبيل للظهور المتميز، ولو اجتماعيا، أو ثقافيا، وكان روادها غالبا ممن يمتلكون المال، والوقت، والأيدي والعقول العاملة تحت رغباتهم، ممن يستطيعون مساعدتهم، ولو في النصح والمراجعة، وابداء الملاحظات، وتضبيط النصوص، والترتيب الدرامي، وكانت تخرج بأشكال يغلب عليها التشويه، لكثرة الأيدي وتداخل الأفكار، والخلفيات، وتمادي طرق المساعدة.
ولعلنا في هذا المقال لن نستطيع التطرق لأعمال بعينها، أو أشخاص ومحاولات، منعا للحرج، ولكون هذا التحليل المنطقي يعنى بالفكرة، أكثر من الشخصانية.
هنالك ضريبة يدفعها دوما من يبدأ المحاولة، ومن يبالغ في شعور التمكن.
عندما يكتب أحدهم الشعر، فهو ملزم بمقاييس حادة محاذيرها كالصخر، فلا يمكن المرور من بينها دون موهبة وأسس لغوية ونحوية عظيمة وقدرة على التخيل، وخوض بحار القوافي، لذلك كانت بعض التجارب الشعرية ركيكة وتتمثل بجلمود صخر حطه السيل من عل.
وهذا ما دفع كثير من المثقفين السعوديين لإطلاق أقلام البراح لأنفسهم، متعمدين تلافي الاصطدام بالفنيات والقوافي واللغويات، والبحور والجرس في الشعر، فوجدوا الفرج لمخيلاتهم، من خلال فن الرواية الطويل، صفحات ينثرون فيها مشاعرهم ومعارفهم، ودون حدود ضيقة، المهم أن يحصلوا في نهاية المراجعة على ملامح البناء، مع القدرة على شطب المقاطع الطويلة، وتحسين البعض الآخر بالمقولات الدينية المعروفة، كما لحكماء وفلاسفة وأدباء آخرين.
وعلى ذلك وجدنا في الثمانينات والتسعينات أن عدد الروايات السعودية يتزايد، حتى أصبحت مع بداية الألفية الحالية تنافس الدول العربية في كثير من المواسم، وبأسماء أدباء جدد، منهم بعض المبدعين، وكثير منهم يأتون لمجرد كتابة سيرهم الذاتية، بعد تحويرها، والبعض يسعى لهدف أبعد، من خلال عمل أو عملين، يستمر معها تسميته بـ»الروائي».
ونعود للجودة والمحتوى، فنجد صعوبة بالغة تواجه من يريد خلق رواية سعودية خالصة، ولا بد أن تطولها رياح التأثير، فنصطاد بين السطور ملامح مصرية أو شامية، أو حتى هندية، وقد يكون البعض مطلعا على ثقافات أجنبية أخرى، فتخرج الرواية بروح أجنبية مشتتة، تحمل محاولات التلاقح، والتماهي، وخلل الربط وانفراج المعاني، فالمجتمع السعودي له خصوصياته، ولا يمكن الباسه كل هذا الشتات، وبالتالي ظهور روايات تجدف في بحار غربة، في محاولة لصنع الشخصية السعودية، التي تنجح مرات وتشطح للبعيد مرات عديدة.
هل هذا يحدث في معظم دول العالم؟
بالطبع، وخصوصا في البدايات، وتلك حقيقة ولكن ما يهمنا هنا هو نسبة المختلط من الروايات، إلى نسبة الروايات الأصيلة، التي تستحق لقب أعمال شخصية، سعودية.
صعوبة بناء الرواية من الصفر تكبح جماح الكثير، وربما ينطلق بعضهم من دراما تشابه رواية عالمية، وربما يحاول سرد حكاية سمعها في المجتمع القريب، ولكن المميز والمبدع من الكُتاب، هو من يجمع السنابل، ويطحن الحبوب، ويصنع العجينة ويخبزها بنفسه، لتعبر عما بداخله مكتملا.
البعض من كتاب الرواية جنحوا للأعمال البوليسية، والتي قد لا تتناسب مع الأجواء وطرق التناول، والقوانين السعودية، والبعض ذهب للحس الفلسفي الروسي، والبعيد عن عادات ومعتقدات المجتمع السعودي، وكتب بعضهم في المجون والجنس، أو حتى في الشذوذ، وحاول فضح بعض الممارسات السرية، التي كانت ذائبة وسط المجتمع ولا أحد يذكرها، ولو على سبيل التلميح، وخصوصا أن المجتمع في فترة الصحوة، كان منغلقا ومدعيا للملائكية، ويحسبها على النوايا، متلبسا بروح النقاء التام والفضيلة، المبالغ فيها.
المشكلة الأكبر، التي واجهها كاتب الرواية السعودي كانت ضيق وصعوبة الرقابة المؤسسية، والتي كان يديرها موظفو متابعة دلالية، فلم تكن تسمح إلا بأقل القليل، وبما لا يكثر فيه التأويل، وكم يتعدد الشطب، والتعديل، حتى على مفردات بسيطة قد تكون من أساسيات السرد، ولكن الرقابة ظلت شديدة وتزداد تشددا، حتى دفعت الكاتب السعودي للهروب بنتاجه لدور النشر العربية، المصرية في الغالب، واللبنانية، والمغربية، وكل حسب قدرته على دفع المطلوب.
كثرة الروايات السعودية في الوقت الحالي، قد يعتبره البعض أساسا متينا لصنع الرواية الوطنية على أصول عريضة، مؤكدة، ولكن ذلك لا يكون في كل الأحوال، فكثرة السيئ، لا بد أن تسيء للقليل الجيد، وهنا نجد المسؤولية تقع جزئيا على المؤسسات الثقافية الرسمية، ودور النشر الوطنية، والتي كانت تحسبها بالريالات، وحينما تتبنى بعض الأعمال المربحة، تهتم بها، وترشحها للجوائز المحلية والعالمية، وهذا لم يكن متزنا بالكامل، فكانت الواجهة تحمل السيئ والممتاز، وكان النسيان يخمد بريق الكثير من الأعمال الجيدة، ويجعل من أشد الصعوبة على المبدع البروز، وتصدر المشهد.
النقد أيضا لم يكن حاضرا، وغالبا متى ما حضر، لا يتعمق في الرواية، ويظل يعتمد على ما يقوله كاتبها للناقد!
وفي المراحل المتأخرة حضرت المرأة السعودية الروائية، وكانت أوضاعها أفضل، من نواحي وجود الطرق الممهدة، وتهوين صعوبة التكوين والتميز، فوجدت دور النشر المتحمسة، لأن مجرد وجود اسم أنثوي سعودي مربح للدار، ويعطي الكثير من الأبعاد، والكثير من الدعم والانتشار، وهذا ما دفع كثير من الروايات للواجهة، رغم ما تجده العين والقلب من الفروق ونقاط الخلل، فالجيد موجود، ولكن كثير من الروايات تبنى على كلام الحب والهيام، والحديث مع النفس، وبعضها على نقد العادات، وجراءة التعامل مع الجنس، والتمرد، ومواجهة المجتمع، بقوة، وغضب نسائي دفين، ما جعل القراء يزحفون إليها، إن لم يكن من أجل الإبداع، فمن أجل متابعة منطوق تلك المثقفة السعودية الثائرة على العادات والتقاليد والمجتمع، في الغالب.
الترجمات لبعض الروايات كانت تحدث، للغات أجنبية، ولا يمكن قياس مدى نجاحها باعتدال، على اعتبار أن ذلك يعتمد على شفافية الترجمة، وقربها من الأصل، ولأن القارئ العالمي لا يمكن أن يتم جذبه دون تأسيس قاعدة محلية ورعايتها، ولكن المادة تؤثر، وقدرة دور النشر على خلق الشراكات يحدث، والكسب المادي هو ديدن الجميع، ما يجعلنا نرى المبالغات.
ما هو المطلوب لترسيخ ودفع عجلة الرواية السعودية؟
أعتقد أن العمل على ذلك يجب أن يكون عظيما على قدر الفوائد والتميز المتوقع منه، وأتمنى أن يكون هنالك اهتمام مدرسي جامعي أكاديمي تأسيسي، بنوايا رعاية من يرغبون في دخول مجال الرواية من الشباب، وإعطائهم دروسا مكثفة في اللغة العربية، وتنوع استخداماتها، لأن الكثير مما نشاهده سطحي يجنح للعامي، ويخلق التشويه العظيم لكينونة المجتمع.
ثم لا بد من التنسيق لإعطاء دورات أساسية في التخيل والفلسفة، وكتابة الرواية، ومراجعة وتشريح الروايات العالمية والعربية المشهورة، وانتقادها، لتحديد نقاط القوة والضعف فيها، وكذلك التمهيد لصناعة الرواية المحلية المتأصلة في المجتمع السعودي، والمنطلقة للعالمية، وتبني طباعة الروايات وترجمتها، من خلال إشراف الجامعات أولا، حتى يتم مراجعتها، وتحسين الأداء فيها، وإبراز حضورها وقوتها قبل أن تزف للاحتفالات والمهرجانات والمسابقات.
كل ذلك سيخلق تميزا للرواية السعودية، ويعطيها روحا محلية تشبهنا، في اللب والقشرة، وبقرب من روح مجتمعنا، وهضم لمعضلاتنا وطموحاتنا الحقة، وغير المدبلجة.