د.علي زعلة
تتجلّى الآخرية الاجتماعية في أبرز تمثيلاتها في خطاب الرواية السعودية عبر ثنائية الذكورة والأنوثة، حيث مثّلت الأنثى الآخرَ الأكثرَ سلبيةً في نصوصها، إنها تمثل الآخر الداخلي، آخر الهامش والظل، وذلك بسبب الابتعاد عن الفهم الصحيح لتعليمات الدين الحنيف، وتنكّب الصراط المستقيم الذي ينظر إلى الأنثى بوصفها شقيقة الرجل، وشريكته في صناعة الحياة. وبفعلِ هيمنة منظومات أفكار وقيم ومعتقدات وسلطات ومؤسسات تتعامل مع المرأة جسداً وصوتاً وكتابةً بنوع من الحذر والريبة والدونية، كما يقول معجب الزهراني.
حين نرجع إلى رؤية المؤسسة الرسمية للدولة نجدها قد أولت المرأة منزلتها العالية، ولكنّ ما يسمى بالنظرة الأبوية (والأبوية هي المقابل العربي لمصطلح patriarchy وبعضهم يطلق عليها بطريركية، ويعود المصطلح إلى حقل الأنثروبولوجيا وشاع استعماله في الدراسات النسوية، إذ يشير إلى السيطرة المطلقة للذكور على المرأة) تنكرت لتلك القيم العليا، واعتسفت الأنثى وشوهت صورتها، وأخضعتها لقوانين الذكورة داخل مجتمع الرواية؛ حيث تبدو القيم السائدة للمجتمع الأبوي المستحدث قيماً محافِظةً ومنحازة إلى الرجل، وترمي إلى حصر الامتيازات والسلطة في الرجل، وذلك على حساب المرأة وإبقائها محاصرة بعوائق اجتماعية، ويشير هشام شرابي في حديثه عن مفهوم الأبوية الذي تبنته الذوات المتسلطة في المجتمع العربي على كل آخَر سواها، ومن بينها الآخر الأنثوي؛ إلى أن تغييراً كبيراً حدث في المجتمع العربي خلال القرن العشرين الميلادي جراء اصطدامه بالحضارة الغربية الحديثة، حيث لم يؤدّ هذا التغيير إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، بل أدى إلى تحديث القديم دون تغييره جذريا، فانبثق عنه النظام الأبويّ المستحدث؛ الذي يدّعي التراثَ والحداثة معاً، والحقيقة أنه يبعُد عن الحداثة الحقيقية بُعدَه عن التراث الحقيقي.
وقد ظهر إقصاء المرأة عبر أشكال عدة؛ من أقساها ممانعةُ أطياف اجتماعية واسعة لتعليم المرأة ووقوفهم ضد ذلك رفضاً واستنكاراً، لمدة ثلاثين عاماً، حتى نهضت عزيمة الملك عبد العزيز –رحمه الله- إلى رفع الظلم الاجتماعي عن المرأة، ابتداءً برفع الجهل عنها، وتعليمها في مدارس نظامية.
لقد قدمت الرواية السعودية في عدد من نصوصها المبكّرة صوراً نمطية مشحونة بالمعنى السلبي والعلاقة المتوترة بين الذات الذكورية والآخر الأنثوي، حيث كان يُنظر إليها نظرة دونية في الأساس، إذ لم ينحصر إقصاء الأنثى في بدايات تكوين الدولة وتحديث المجتمع، بل استمر بعد ذلك، عبر عدة صور ومواقف؛ يقول بكري شيخ أمين: على الرغم من ذيوع الحضارة، وتغلغلها في أرجاء الجزيرة العربية، وتزايد الثروة، وارتفاع المستوى الثقافي العام بين المواطنين، وتطور الأفكار، وتقبلها كثيراً من الآراء والنظريات الحديثة ظل وضع المرأة جامداً، لم يدخل عليه تبدل أو تجديد. وكان إذا خطر ذكر المرأة على لسانٍ قُرنت بكلمة «كرَّمك الله» مهانة واحتقاراً.
وكما مُنعت المرأة من حقها في التعليم، مُنعت في بعض التمثيلات الروائية من العمل، ومن المشاركات المجتمعية والثقافية، وتحت هذا الضغط تولد صوت المرأة الثقافي داخل خطاب الرواية، فصوّرت الرواية معاناتها، والصراعات التي خاضتها لأخذ حقوقها من الذات الذكورية، وأبرزت دورها الاجتماعي والثقافي بوصفها كائناً اجتماعياً ذا قيمة عليا، لا يقلّ أبداً عن قيمة الرجل ومكانته، وأفسح لها الخطاب الروائي أدوار البطولة، ممهداً السبيل للآخر الأنثوي ليكون له صوت مقابل أصوات الذات الغالبة، وتمحضت بعض الروايات لتقديم صورة المرأة القيادية التي تضيء الطريق لبنات جنسها وتقدم أنموذجاً اجتماعياً راقياً، وتبدو رواية (صالحة) لعبد العزيز مشري أنموذجاً صريحاً على ذلك، ابتداءً باتخاذ اسم مؤنث عنواناً للرواية من قِبل المؤلف، مروراً بأحداث الرواية ووقائعها التي تصور حياة (صالحة) التي خرجت على سلطة الرجل وتسلطه، وكافحت بعد رحيل زوجها في تربية أبنائها، متصدية لابتزاز (عامر) المتكرر، وعداواته ومكائدِه وإساءاته، التي تتخفّى داخل قوانين المجتمع الأبوي والسلطة الذكورية التي تتيح له ذلك.
وحملت رواية (خاتم) لرجاء عالم اسماً للشخصية المزدوجة بين الذكورة والأنوثة، إذ تكون ذكَراً بالنهار في ملابس رجل، وتكون بالليل أنثى في ملابس النساء ومخادعهن، ولم تكشف الرواية عن جنس (خاتم) بل شيّدت حياة كاملة لـ(خاتم) بتفاصيلها ووقائعها وديناميتها الاجتماعية وعلاقاتها ببقية الشخصيات، وبالبيئة المكانية والزمانية للأحداث، كل ذلك دون أن تكشف بوضوح عن جنس شخصية (خاتم)؛ وكأن خطاب الرواية يريد أن يمرر عدة رسائل عبر هذا العمل، لعل من بينها أن الجنس ليس هو المهم بقدر أهمية الإنسان وأدواره وكينونته ف ي الحياة، وأن الرجل والمرأة شريكان لصيقان في بناء الحياة، كالتصاق الرجل والمرأة في شخصية (خاتم).
لئن علا الخطاب النسوي وسردياته عبر الخطابات الثقافية العربية والعالمية بوصفه من خطابات ما بعد الاستعمار؛ فإن عدداً غير قليل من الأعمال الروائية السعودية قد تبنى الفكر النسوي، سواء في ذلك الروايات المكتوبة بقلم المرأة أو بقلم الرجل، وكان الصراع بين الذات الذكورية والآخر الأنثوي عاملاً رئيساً في ظهور الخطاب النسوي في الرواية السعودية، وبخاصة في نصوص الرواية النسائية، إذ عندما أصبحت الأنثى متعلمة ومثقفة وقادرة على تشخيص أزماتها المتعددة؛ اتجهت مباشرةً إلى تشريح الأنماط الذكورية في المنظومة الاجتماعية، ومساءلة الثقافة وأدبياتها ونظُمها القيمية الأحادية، فتولد في الساحة الثقافية خطاب أنثوي ناقضٌ للخطابات السائدة ومتمردٌ عليها، وكاشفٌ عن اعتلال المنظومة الاجتماعية التي تقصي نصف المجتمع وتعطّله عن ممارسة أدواره، واتخاذ مكانته التي كفلها له الشرع والأخلاق والقيم السوية.