د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ولكننا لا نستطيع أن ننساق في هذا الاتجاه إلى آخره، فقد لا تكون هذه السمات هي السمات الغالبة على ما كتب عن المتنبي، أو بالأحرى ما أخذ عليه، فقد يكون ما أخذ عليه مما قاله البلاغيون، كما جاء في نهاية المقالة السابقة إلا أن السؤال يظهر ما ذا لو كان الشعر أجمع يدور حول هذه الاعتبارات؟ بمعنى أن هذه المآخذ التي أخذها النقاد هي من صميم الشعرية، فهذه المآخذ التي تتمثل بالتعقيد اللفظي أو المعنوي أو المعنى تتصل بظواهر يمكن أن يختلف فيها الرأي، من مثل التكرار الذي قد يعد إسهاباً وعياية، وقد يدل على تأكيد المعنى وتعزيز الشعور، وسيقولون: إن هذا يعود إلى حذق الشاعر ومعرفته بالصناعة، إلا أن المهم أن الظواهر الواحدة أو المتشابهة تأخذ حكماً مختلفاً، ويحضرني في هذه الساعة قول أبي تمام المشهور:
ذهبت بمذهبه السماحة فالتوت فيه الظنون أمذهب أم مذهب
وقوله أيضاً:
ناظراه فيما جنى ناظراه
أو دعاني أمت بما أودعاني
فقد شنع عبد القاهر على أبي تمام في البيت الأول، وأعلى من مكانته في البيت الثاني، ولو تبعنا ما قاله القدماء عن الفارق بين البيتين، وهو أن المعنى واضح مستقيم في الثاني، وأن كل لفظة دلت على معناها المختلف عن الأخرى بصورة طبيعية صحيحة ما يجعل التكرار في الألفاظ حلية إيقاعية جميلة وهو الجناس، في حين أن الحال ليست في البيت الأول، بدليل اختلافهم في مقصده من «مذهب» الأولى، والثانية، وإن كان الأغلب أن الأولى تعني النسيج الذي فيه ذهب، والثانية تعني الطريقة الخاصة الجديدة، إلا أن البيت الثاني لا يختلف عن بيت إسماعيل صبري المشهور والذي عد من نماذج التقعيد والميل إلى الزخارف والحلى القولية، والذي يقول فيه:
طرقت الباب حتى كل متني
فلما كل متني كلمتني
وإذا عدنا إلى القضايا التي ذكرها الصاحب ابن عباد وردنا عليها نجد بعضها مما يلحق بما يسميه البلاغيون ب»لازم الفائدة»، وهي القضايا التي تفيض عن المعنى ولا صلة لها حقيقية بالتركيب اللغوي، ويختلف فيها المختلفون، لأنها تعود إلى السياق مرة أو المتلقي أخرى أو المتحدث ثالثة.
الأمر المهم هنا هو أن الشعر نفسه في تكوينه، أو «الشعرية» تعود إلى هذه المعاني المحيطة بالقول، ويختلف حولها المختلفون، وقد لا تعود بالضرورة إلى التركيب اللغوي، وإنما إلى ما ذكرته في الفقرة السابقة، فليس بالضرورة أن يكون الموقف من النص بناءً على سمات فنية في النص، بل كثيراً ما يكون ما أحاط به من إعجاب، وتوالي المديح، ويمكن أن نوازن لإثبات هذه الحقيقة بين النصوص في الدواوين والنصوص في الدراسات المكتوبة عن الشخصيات من مثل كتاب «أخبار أبي تمام للصولي»، فالحكايات التي يوردها الصولي عن بعض المقطوعات والقصائد التي يتحدث عنها تزيدها قيمة وتكشف عن محاسنها أو تقنع المتلقي على وجه أدق بفرادتها خاصة مع إعجاب الصولي الكبير بأبي تمام وأشعاره.
وهذا الاختلاف بين أن يكون المعنى بسبب عنصر تركيبي في النص أو أن يكون متصلاً بالسياق، ومعرفة أحوال المتكلم أو السامع، مهم جدير بالتأمل والنظر، باعتباره قضية أدبية. وذلك أنه في الحالة الأولى (أن يكون بسبب عنصر تركيبي)، يعني أنه في عدم وجود هذا العنصر لا يعد المعنى مقبولاً أو صحيحاً حتى وإن دل عليه بسبب السياق أو معرفة أحوال المتكلم، أما في الحالة الثانية فإنه لايهم العنصر التركيبي، وإنما المهم هو ما يجده المتلقي أو يدور في نفس السامع.
والفرق بين الموقفين هو في مقدار ظنية الدلالة، فالمرة الأولى تكاد تكون يقينية أو ظاهرة الرجحان، أما في الثانية فهي ظنية، ومحل جدل بين المتلقين، ويمكن نفيها بيسر لأنها تعتمد على حدس المتلقي أو ادعاء المتحدث على أن هذا لا ينفي حقيقة أن هذه الدلالة هي نوع من تعدد القراءة أو بأسلوب آخر هي نوع من التأويل. وهذا يعزز إمكانية المساواة بين النموذجين ذي الزيادة البنائية أو البعد التأويلي السياقي.
وفي الحالين تظل خاضعة للذوق المختلف من حال إلى حال، وهو ما يؤكد القول بأن هذه المآخذ إذا لم تكن أخطاء لغوية دقيقة يمكن أن تعد على أنها مآخذ بالنسبة لشاعر في مكانة المتنبي، بل إننا يمكن أن نعيد النظر في الأخطاء اللغوية، والتجاوزات العروضية وفق نظرية الانزياح التي تراها مستوى لغوياً، وترى أن فرق ما بين اللغة المعيارية واللغة الأدبية هي هذه الانزياحات التي يخرج بها الكاتب أو الشاعر، ويتجاوز به اللغة المعيارية أو ما تعارف عليه الناس من قبل.