جواهر الرشيد
تزدانُ الحياةُ بما فيها من زينةٍ تملؤ رحبَها الممتدّ في عينِ كلِّ شابٍ نما فوقَ هذه الأرضِ أيًّا كانت البيئةُ التي ترعرعَ فيها والظّروفُ التي تواجه مصيرَه والعقباتُ التي تعرقلُ طريقَه. إنَّ الحياةَ تبدأ معانيها تتضِحُ في مرحلةِ الصِّبا فيشعرُ الشَّابُّ بمسؤوليتِه نحوها ونحوَ كلِّ ما تقدِّمه الحياةُ له من أمورٍ مهمَّةٍ تتطلَّبُ العيشَ لها ولأجلِها. يقولُ أبو القاسِم الشَّابِّي: «لقد أصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب..».
ملأت (أغاني الحياة) أغنياتِ الشَّابّي التي كانت جميعُها في مرحلةِ الصِّبا؛ لأنَّ المنيةَ وافته وهو دونَ السَّبعةِ والعشرينَ عامًا، تعمَّقَ في البحثِ عن صورةِ الجمال التي عبَّر عنها في أشعارِه عن طريقِ وصفِه للطَّبيعة؛ ترويحًا عن نفسِه وألمِه الذي بدأَ يعانِيه وهو داء (تضخّم القلب). حُظِيَ بإحساسٍ مرهَف أهدَاهُ روحًا شاعريَّةً فذَّة جعلته يصارعُ مرضَه ويقابلُ أوضاعَه الصَّعبةَ عن طريقِها، فنشرَها بصوتِ الشِّعرِ للإنسانيَّةِ جمعاء، راسمًا فيها صورةَ الغدِ الذي تمنَّاه لنفسِه ولغيرِه من البشر غنَّاه في إبداعٍ فكريٍّ ممزوجٍ بموسيقا شعريَّةٍ عذبة وفلسفةٍ لغويةٍ مليئةٍ بالرَّسائلِ المحمَّلةِ إلى كلِّ روحٍ تدافعُ عن الخير وتدفعُ الشَّرَّ بأنواعِه وتميلُ إلى الصِّدقِ والأخلاقِ القيّمةِ وتلك المثاليَّة التي اتَّسمَ بها تأسّيًا بأبيه الشّيخِ الورع الذي يقولُ عنه: «إنه أفهمني معاني الرحمة والحنان، وعلمني أن الحق خير ما في هذا العالم وأقدس ما في هذا الوجود.»
أحزنتهُ المصائبُ رغمًا عنه فقد أفعمته بالفجائعِ المتتالية في مرضِه أوَّلًا ثمّ موتِ حبيبتِه ثمَّ موتِ أبيه، وبرؤيتِه الرُّومنطيقيَّة عبَّر عمَّا مرَّ به فشَكى إلى الطَّبيعةِ أحاسيسَه بدموعِ الغربةِ والوحدةِ داعيًا مقلةَ الليلِ لبكاءِ حبِّه يقول:
لستُ أدري!... أيُّ أمرٍ
أخرسَ العصفور عنِّي..
أتُرى ماتَ الشّعور
في جميعِ الكونِ حتى..
في حشاشاتِ الطّيور؟
عبّر عن أحاسيسِه معزيًا آلامَه، حالمًا بما فوق القمّة، مُصغِيًا إلى لحنِ الطَّبيعةِ، مُنشِدًا جمالهَا في أبياتٍ تسحرُ القارئَ وتملأُ وجدانَه حُبًّا وتعلُّقًا بها، أنصت إلى أحاسيسِه الدَّاخليّة وما تحمله من تمرّدٍ غلبت خوفَه من مرضِه، يقول:
سأعيشُ رغمَ الدَّاءِ والأعداء
كالنَّسرِ فوقَ القِمَّةِ الشَّمَّاءِ
إنه شاعرٌ طموح ركلَ الحياةَ ليشرقَ النُّورُ في عينيه مُتشوِّقًا الأملَ مُتيَقِّنًا به في ثقلِ الأيَّامِ الرَّتيبةِ بنزعةِ المتصوِّفِ التي سوَّغَتْ له قابليةَ العيشِ ولو كانتْ الأتعابُ أضعفَت قلبَه فحمَّلتهُ مشاعرَ اليأسِ في تجربتِهِ الشّبابيّة غلبت على إيمانِه أحيانًا ممَّا جعلت قصائدَه تستدعِي المتضاداتِ المقابلات التي يلمحُها القارئُ بوضوحٍ حين يقرأُ ديوانَه، والتي تنمُّ عن ضبابيَّتِه في المواقف، وتُعطي دلالةَ التَّردُّدِ بين الأملِ واليأس، وتكشفُ عن الحيرةِ التي لازمت عقلَه في سرِّ الوجودِ وحقيقةِ الكون. كان إنسانًا لا يستسلم للأحزان، اختارَ أن يواجه الحياةَ بسرور وفرح في كلِّ الحالات والظّروف ناشِدًا البشرَ للسَّيرِ نحوَ هذا النَّهج، يقول:
خُذِ الحياةَ كمَا جاءَتكَ مُبتسِمًا
في كفِّها الغارُ أو في كفِّها العَدمُ
وارقصْ على الوردِ والأشواكِ مُتَّئِدًا
غنَّتْ لكَ الطَّيرُ أو غنَّتْ لكَ الرُّجُمُ
واعملْ كما تأمر الدُّنيا بلا مضضٍ
والجمْ شعورَكَ فيه، إنَّها صَنمُ
فمن تألَّمَ لم تُرحَم مضاضتُهُ
ومَن تجلَّدَ لم تهزأ به القِممُ